مؤتمر ‘‘الثرثرة’’ في مدينة ‘‘العطش’’!

آخر ما تحتاجه تعز، في هذه الأوقات العصيبة، تصميم فعاليات على شاكلة مؤتمرات أو ورش أو ندوات.
هذا النوع من الثرثرة المتأنقة خلف لافتات كبيرة، وسط الانهيار الشامل، لا يعكس موقفاً متمرداً على حالة الفشل السياسي والإداري في المحافظة وفي البلاد عموماً، بل اندماجاً كاملاً داخلها.
ما الذي يمكن أن يقوله مؤتمر يُعقد في محافظة بلا خدمات وتعيش حالة عطش وكأنها تاهت في صحراء؟!
بأي لغة ستتحدث أيها "الشاب" وهذه المحافظة، كما بقية البلاد، ينهشها الفساد الإداري والمالي بلا مساءلة، ويخنقها الحوثيون، منذ عشر سنوات، بالحصار والقذائف والقنص، بلا حسم؟
ما الجديد الذي ستضيفه إلى آلاف أوراق العمل ومئات المؤتمرات والندوات والنقاشات الفارغة التي تنتهي بالتوقيع على تصفية المخصصات والعُهَد ثم ينتهي كل شيء كأيّ مهرجان عابر ومكلِف.
أنت لا تفعل شيئاً يا صديقي "الشاب" غير استنساخ الآليات القديمة نفسها، القوالب الجامدة ذاتها، وربّما البرامج والفقرات وحتى الإكليشات طبق الأصل.
أنت لا تخترع شيئاً، لا تضيف فكرة، ولا تضع خطة، ولا تصنع الخارطة المفقودة.
هل فكرت في مخرجات 'مؤتمر الحوار الوطني'، وهي خلاصة نقاشات وجدل ومعارك كلامية وصراعات ساخنة وباردة، شاركت فيها قوى اجتماعية وسياسية وأحزاب ومكوِّنات وجهات وأطراف حتى شملت مختلف الفئات اليمنية؟
هذه المخرجات، رغم أنها حظيت بإجماع المتحاورين ورعاية دولية، فقد علاها الغبار، منذ خضّبها انقلاب الحوثي - صالح بالدم، فخاض اليمنيون معركتها، مع ذلك لا أحد يتذكرها إلا في معرض الجدل السياسي، أو للتذكير بانقلاب الحوثي مع انتفاء أي أثر لها في المناطق التي تناهضه.
قبل ذلك، هل قرأت البرامج السياسية للأحزاب والمكوِّنات وأدبيات مؤتمراتها العامة ومشاركاتها الانتخابية ومهرجاناتها الجماهيرية؟
ربما ستحتاج إلى بعض الوقت لإنتاج وثائق مشابهة، جيّدة السبك، قويّة الحُجة، مصنوعة بلغة رفيعة، ترى اليمن طولاً وعرضاً، لكنها مجرد حبر على ورق، لا تمثل "دليلاً" إلى أيّ وجهة باستثناء هذا الواقع المرير؛ لأنها كانت كلاماً يفتقد للمعنى في الأحزاب نفسها!
لسنا بحاجة إلى اختراع أي شيء، حتى التشريعات -على تخلف بعضها- لم تكن المشكلة، ولا الهياكل الإدارية والبيروقراطية، بل كانت مشكلتنا القديمة الجديدة في السلطة التي تشغلها، أو لنقل في الناس، باعتبار السلطة كجهاز هيمنة جزءا من الناس، أو هي تمثيل لهم بصورة من الصور.
التفكير "خارج الصندوق" يعني أن لا تعقِد مؤتمراً يبحث عن مموّل، بل أن تصنع شيئاً مختلفاً وغير مألوف، ولست بحاجة إلى البحث عن "شراكة الشباب في السلطة"، بل إلى الضغط لأن تكون سلطة متعافية من الفساد، مسؤولة عن خدمة الناس كافة بكل فئاتهم، سواء كان المسؤولون عنها رجالاً أو نساءً، كهولاً أو شباباً.
لا أريد تذكيرك -أيها الشاب- بأن "شباباً" كُثر استغلوا هذه اللافتة الفئوية، بعد فبراير 2011، والتحق بعضهم بالعمل الحكومي فكانوا أفسد ما فيه!
نريد بيئة خالية من الفساد، وليس تشبيب بيئة الفساد نفسها.
أن تفكر "خارج الصندوق" يعني أن تُطلق، مثلاً، مبادرة شبابية تطوعية لا تبحث عن مموِّلين، بل تبذل الجُهد وتصنع الفارق في الميدان، بتحديد أيام لنظافة الشوارع في الشهر -على سبيل التجربة، غرس أشجار لزيادة المساحات الخضراء لتحسين وجه المدينة، أو المشاركة في مكافحة الأوبئة.
أظن أن هذا النوع من المبادرات يمكنه أن يُحدث فرقاً هائلاً في السلوك وفي المفاهيم، وسيشق طريقنا نحو استعادة كل شيء.
أما إسهامك الفارق والمؤثر فسيكون في مواجهة المسؤولين الفاسدين، وإجبار الهيئات المسوؤلة على الإفصاح عن التقارير والمعلومات المتعلقة بقضايا المال العام، باعتبارها جزءا من حقوقك القانونية والدستورية.
سيكون أكثر تاثيراً ونفاذاً إذا قررت الاعتصام أمام كل مرفق فاسد حتى يتم تطهيره ومحاسبة المسؤلين فيه.
من المفترض أن هذه مسؤولية كل مواطن، مسؤوليتنا جميعاً وليس الشباب.
لكن، طالما أن "الشباب" لديهم مبادرات "خلاقة" فهذه أولى أولوياتهم الواجبة حين يقررون التصدِّي للشأن العام.
إذا كان البعض قد يئس من "النضال" فهذه ليست أنشطة ثورية، بل هي أقرب إلى النهج الإصلاحي لمنع الانهيار أكثر.
حالة اليأس، التي خلفتها الأحزاب في المحافظة، لا يمكن التخلص منها بخلق يأس رديف!
الشباب هم الطاقة الكامنة للشعوب الحيَّة، وإذا كنتَ عاجزاً عن تشكيل حالة من التفاعل الإيجابي في وقت المِحن، فلا تتسبب بهدر فرصة منتظرة أكثر جدية للشباب، وإضافة محنة أخرى!
تعز، التي يُعقد فيها مؤتمر الشباب، تحتاج إلى إيصال المياه إلى المنازل، وليس تسييل الحِبر إلى أوراق العمل، وإطلاق الخُطب في الهواء.
تحتاج المحافظة والبلاد عموماً إلى محاكمة الفاسدين الذين يسرقون المال العام في أشد أوقات البلد مِحنة، وليس جلبهم إلى المِنصات لإلقاء الكلمات كضيوف شرف.
الفكرة الشابة لا تقبل بتدوير الفاسدين والقتلة، والبش في وجوههم، والاحتفاء بمطبّليهم، كما أن التمرّد على الفشل لا يتكاثر في الصالات المكيَّفة وتحت ربطات العنق!
انشط، أيها الشاب العزيز، في منظمات مدنية، إذا أردت الانغماس في مزايا هذا العالم ومكاسبه، بدون ادعاءات، لكن الخلط بين هذا الصنف من الأعمال "المثمرة" والشعارات الوطنية يحرجنا أمام "ثورة النسوان"!