العقل السياسي العربي: نحو نظرية سعودية

يمرّ العقل السياسي العربي بمرحلة فراغ مفاهيمي وتاريخي غير مسبوقة، بعد أن تراكمت فيه الشعارات وتآكلت فيه القدرة على الفعل والتفكير معًا. طوال قرن من الزمان، ظلّ هذا العقل يتأرجح بين استيراد النماذج الغربية واستعادة صور مثالية من الماضي، دون أن ينجح في إنتاج نظرية عربية مستقلة لبناء الدولة الحديثة. وقد تنوّعت المشاريع الفكرية التي تصدّت لهذه المهمة، من القومية إلى الإسلامية إلى الليبرالية، لكنها جميعًا فشلت إما بسبب طغيان الأيديولوجيا، أو غياب الرؤية المؤسسية، أو تجاهل السياق التاريخي والاجتماعي للمنطقة.
فالمشروع القومي، رغم ما حمله من وعود بالوحدة والتمكين، وقع في فخ الزعامة الفردية، وأهمل بناء الدولة الحديثة، فكانت النتيجة دولة بلا مؤسسات، وشعبًا معلّقًا بين حلم الأمة وواقع الانقسام. أما المشروع الإسلامي فلا يعترف بحدود الدولة الجغرافية ولا بكونها كيانًا سياديًا مستقلاً، بل ينظر إليها كجزء من كيان أممي أوسع، دون تقديم تصور متكامل للدولة الحديثة، فابتلع الدولة لحساب الجماعة، وتحوّل الدين من مرجعية حضارية إلى أداة تعبئة سياسية. فيما سقطت الليبرالية العربية في التبعية الثقافية، فاستوردت مفاهيم الحرية والعقلانية والحقوق دون أن تبني لها حوامل اجتماعية أو مؤسساتية، فانفصلت عن المجتمع وتحوّلت إلى خطاب نخبوي بلا فعالية. القاسم المشترك بين هذه المشاريع جميعًا أنها تعاملت مع الدولة كأداة عابرة، وليست كيانًا سياديًا منتجًا، وأنها نظّرت قبل أن تؤسس، واستعجلت القفز إلى المثال دون المرور بمرحلة البناء الواقعي.
في هذا السياق العربي المضطرب، تبرز المملكة العربية السعودية كحالة استثنائية، لا في استقرارها فحسب، بل في كونها تقدّم اليوم نموذجًا قابلاً للتحول إلى نظرية سياسية عربية مستقلة. فمن خلال رؤية 2030، والتحولات الجذرية التي تشهدها في المجال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، استطاعت السعودية أن تعيد تعريف مفاهيم مركزية (كالدولة، السيادة، الشرعية، والمصلحة) ضمن بنية متماسكة تراعي السياق المحلي وتواكب التحولات العالمية. لم يعد الدور السعودي مقتصرًا على التوازن الإقليمي أو الثقل الديني، بل صار مشروعًا لإعادة هندسة المفاهيم التي طالما عانت من التشويش في العقل السياسي العربي.
تقدّم السعودية في هذا المسار مقاربة واقعية، لا تنفصل عن المصلحة لكنها لا تفرّط في المبادئ. واقعية لا تعني الانتهازية، بل تعني القدرة على تموضع سيادي ذكي، يتحرّك بين الشرق والغرب دون ارتهان، ويصوغ شراكات متعددة دون أن يخسر استقلاله. كما تعيد السعودية إنتاج الشرعية على أسس مركبة تجمع بين التاريخ والإنجاز، فليست الشرعية هنا مجرد ماضٍ مقدّس، بل حُكمٌ يُثبت كفاءته بأدوات العصر، ويؤسس للثقة من خلال النتائج لا فقط من خلال الخطاب.
وقد ظهر في المشروع السعودي نوعٌ جديد من السيادة، يمكن تسميته "السيادة الاستباقية"، حيث لم تعد الدولة تنتظر الأحداث لتتموضع، بل باتت تصوغ الأحداث وتوجّهها بما يتوافق مع مصالحها الوطنية والإقليمية. فالسعودية اليوم لا تُعرّف أمنها انطلاقًا من الصراع، بل من القدرة على صناعة التوازن. ولا تُمارس تأثيرها من خلال الهيمنة، بل من خلال بناء بيئة استراتيجية حاضنة للاستقرار والنمو، ومن خلال تموضعها كقوة وازنة بين واشنطن وبكين، وعلاقاتها المتوازنة مع القوى الكبرى، أثبتت السعودية أن التعدد في التحالفات ليس ارتباكًا بل هندسة، وأن السيادة لا تتعارض مع الشراكة، بل تُفعّلها من موقع الندية.
وبعيدًا عن الانفعال الأيديولوجي الذي ميّز العقل السياسي العربي لعقود، تمثّل السعودية اليوم حالة عقل سياسي جديد، متزن، مبادر، لا يستهلك الطاقات في التنظير، بل يستثمرها في إعادة بناء الواقع. فبينما ظلّ "الإسلام السياسي" يختزل السياسة في منظومة مغلقة تستمد مشروعيتها من معيار عقائدي، والقومية تحاصرها في رمزية الزعيم والماضي، والليبرالية في سرديات الفرد والعالم، تُعيد السعودية توجيه السياسة إلى وظيفتها الأصلية لخدمة المشروع الحضاري، حماية السيادة، وتحقيق الكفاءة.
وهنا، تطرح المملكة إمكانًا فعليًا لتأسيس نظرية عربية لبناء الدولة الحديثة، لا تنطلق من الاستعارة بل من التجربة، ولا تُبنى على الشعارات بل على الممارسة. نظرية ترى الدولة كأعلى أشكال التنظيم السياسي، لا كوسيلة أيديولوجية، وتربط بين الشرعية والإنجاز، وبين القرار والمصلحة، وبين الخصوصية والانفتاح. نظرية لا تختزل المواطن في التابع، بل تدمجه في المشروع الوطني من خلال التمكين والفاعلية والمسؤولية.
إن مشروع السعودية لا يفرض نفسه على أحد، لكنه يطرح على العقل العربي سؤالًا مركزيًا: لماذا لا يكون النموذج القائم على الاستقرار والسيادة والإنتاج هو نقطة الانطلاق لبناء نهضة عربية عقلانية؟ ولماذا نبحث دومًا خارج أنفسنا عن نماذج خلاص، ولدينا في الرياض مشروع واقعي، ناجح، وقابل للتحوّل إلى مرجعية نظرية؟
إن النهضة العربية القادمة لن تولد من تكرار الأخطاء، ولا من اجترار الذاكرة، بل من دولة تعيد بناء العقل وتصوغ المستقبل، وتعيد ترتيب المفاهيم لا ترديدها، وتضع العرب على خريطة الفعل الحضاري لا مجرد الانفعال التاريخي. وهذه الدولة هي المملكة العربية السعودية، التي لا تطرح فقط مشاريع تنموية، بل تقدم بنية عقل جديد يمكن للعالم العربي أن يلتف حوله، ويؤسس به زمناً سياسيًا جديدًا.
*صحيفة إيلاف