المشهد اليمني

العدالة الانتقالية من وجهة نظر الضحايا

الخميس 3 يوليو 2025 03:18 مـ 8 محرّم 1447 هـ

في الوضع الطبيعي: عندما تتصارع مع شخص يأخذ حقك أحد، أو يعتدي عليك أو ينهب ممتلكاتك، ستلجأ إلى القانون لإنصافك. ستبدأ بملاحقة المعتدي عبر القضاء، لابد من إجراءات فاحصة لتحقيق العدالة، لا بد من مساءلة.

في الوضع غير الطبيعي: عندما يكون الصراع واسعاً، في المشاكل والحروب التي تتعدد فيها الأطراف والمكونات داخل الدولة، ويكثر الضحايا، وتتنوع الانتهاكات التي تحدث نتيجة الصراع، مثل القتل ونهب الممتلكات والاعتقال والإخفاء القسري... وغيرها، في مثل هذا الوضع يضيع حقك، فأنت لن تعرف من تشارع إما بسبب الفساد أو لأن من اعتدى عليك صار نافذا في احدى مؤسسات الدولة، إضافة على أمر مهم وهي أنك لست وحدك المضطهد.. الضحايا كثير.

وغالباً ما تُشكِّل الانتهاكات الواسعة على ذمة الصراع؛ قهراً في صدور الضحايا.. وربما شكلت قيداً من الكراهية والتنافر ورغبة الانتقام بسبب انعدام الثقة بين الضحايا والناجيين كطرف وبين مؤسسات الدولة التي لم تنصفهم كطرف آخر، ما يعيق ازدهار الدولة.

وهذا النوع من الظلم، يحتاج إلى معالجة شاملة لإنصاف الضحايا وضمان عدم تكرار الانتهاكات، في خطوات مدروسة تعالج الناس من آثار الماضي، وتستعيد ثقتهم للانتقال إلى بناء المستقبل.

المعالجة بهذا الشكل معناها «العدالة الانتقالية» حيث كل ركن من أركان العدالة يقوم لأجل الضحية، ومن بينها ركن المساءلة والمحاسبة ولو كانت شكلية في طريق المصالحة العامة؛ إذ أن هذه المساءلة تمنح الضحية نوعاً من الرضا، كما ترسى دعائم الثقة بين الناس ومؤسسات الدولة تقوم على أهمية القانون واحترامه، كما أن المساءلة ولو كانت شكلية، تردع مرتكبي الانتهاكات وتمنع من تسول له نفسه من فعل ذلك في المستقبل.

بهذا الخصوص، لابد من عودة إلى نتائج الدراسة الميدانية التي حملت عنوان «الطريق نحو السلام»، والتي صدرت قبل أسابيع، عن منظمة سام للحقوق والحريات، ورابطة أمهات المختطفين، العضوان في تحالف ميثاق العدالة لليمن، بالشراكة مع معهد دي تي، لرصد رؤية المجتمع المحلي حول آليات تنفيذ العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية لدعم السلام في اليمن.
وتثير هذه الدراسة، الجدل حول الخيار الأنسب للوصول إلى المصالحة المرجوة لبداية عهد جديد، كما يتضح وجود فجوة كبيرة بين العدالة الانتقالية من وجهة نظر الضحايا، وبين الآلية التي يراها اليمنيون ـ من خارج دائرة الضحايا ـ مناسبة للوصول إلى المصالحة. وهنا علينا إعادة قراءة نتائج الدراسة لمعرفة الإشكالات "الجديدة/القديمة".

موقف الضحايا

وضعت الدراسة التي أجرتها المنظمات اليمنية، أمام 86 من الضحايا أو ممن هم على علاقة بأحد الضحايا، ستة إجراءات من إجراءات جبر الضرر الرئيسية، لمعرفة ترتيب الخطوات التي يفضلونها لتحقيق العدالة الانتقالية، في المرتبة الأولى جاء إجراء محاسبة الجناة بنسبة 53.5%، بينما حلت إجراءات المصالحة في المرتبة السادسة والأخيرة بنسبة 7%، بعد خيارات: التعويض المادي، الدعم والتأهيل النفسي، العلاج الطبي، الاعتراف والاعتذار من الجاني.

حدث تغيير مهم ومفاجئ ويستدعي التوقف لمعرفة الأسباب: فعندما وُضع جميع المشاركين وعددهم 122 مشاركاً من بينهم الـ 86 ضحية أو ممن هم على علاقة بهم، أمام محاور العدالة الانتقالية التي يرونها مناسبة على الحالة اليمنية، اختار 82% من المشاركين في المرتبة الأولى: إنشاء آليات لتعويض الضحايا بينما عارض 18% ذلك، بينما جاء في المرتبة السادسة والأخيرة محاسبة مرتكبي الانتهاكات، بعد اجراء الإصلاحات في المؤسسات الحكومية، والمبادرات والأنشطة لدعم المصالحة، وكشف حقيقة الانتهاكات، والرقابة والمساعدة الدولية، وإنشاء النصب التذكارية لتكريم الضحايا.

وعندما وُضع جميع المشاركين أمام خيارين: المصالحة وإنهاء الحرب، أو المساءلة والمحاسبة، فضل المشاركون الخيار الأول المصالحة وإنهاء الحرب بنسبة 64.3، مقابل 35.7% لخيار المساءلة والمحاسبة.

كيف اختار الضحايا أولاً: محاسبة الجناة.. ثم حدثت الفجوة الهائلة وتراجع إجراء المحاسبة إلى المرتبة الأخيرة وفقاً لوجهات جميع المشاركين؟. لا يمكن أن نفهم ذلك دون تحليل الأرقام:

أولاً: مجتمع الدراسة

أجرت الدراسة 122 مقابلة مقسمة على هذا النحو: 109 مقابلة تمثل شرائح المجتمع: «35% فاعلون مجتمعون وجهات فاعلة بمعنى موظفين وأعضاء في منظمات ومبادرات شبابية ولجمان مجتمعية، شخصيات اجتماعية، مرشدين دينيين، وعقال حارات، عدد من هؤلاء يمثلون بعض الضحايا أو مطلعين على الانتهاكات.. 25% نازحون ولاجئون 22% فئات مهمشة وأقليات 18% ضحايا وناجون ومن بين هؤلاء أفاد أكثر من نصف المشاركين، 56 مشاركاً، بأنه ليس لديهم أي معرفة عن مفهوم العدالة الانتقالية، بينما أفاد 53 من المشاركين عن معرفتهم بالمفهوم.. أما بقية المقابلات، وهي 13 مقابلة، فقد أجريت مع خبراء يمنيين من أحزاب سياسية وناشطين حقوقيين وأكاديمي واحد.

ثانياً: فهم مجتمع الدراسة يكشف لنا تقلب الخيارات:

يثمل الضحايا والناجون من الانتهاكات، نسبة صغيرة من مجتمع الدراسة، وهؤلاء هم من سيشددون على المحاسبة، وإذا كانت خيارات بعض ممن يعرفون الضحايا أي من الـ 86 مشاركاً، قد تحولت، فلا يعني أن الضحايا أنفسهم تخلوا عن خيار محاسبة الجناة، بل إن هذه النسبة تؤكد حقيقة واضحة: أن الضحايا الفعليين أكثر تشبثاً بخيار المحاسبة، وأن الفجوة تتسع بين رؤية الضحايا وخاصة الأكثر تضرراً، وبين الذين ينظرون للانتهاكات من خارج الدائرة أو بعيداً عن مركزها.

لنتخيل دائرة نضع بداخلها ضحايا الانتهاكات، في منتصف الدائرة سنضع الضحايا الأكثر تضرراً: القتلى والجرحى، ثم نوزع الانتهاكات الأخرى وفقاً لدرجة الضرر: الاعتقال، الاخفاء القسري، المنازل المدمرة، المسرحين من الوظائف، التهميش، اللجوء، النزوح... إلخ. وهكذا حتى نصل إلى الانتهاك الأخف الذي يقترب من محيط الدائرة.

هذا المثال التقريبي من أجل توضيح نقطة مهمة: أن درجة التفكير تختلف بين الضحايا أنفسهم، فيما يتعلق بخيارات تحقيق العدالة الانتقالية، فمثلاً أهالي القتلى لن يقبلوا بنموذج مباشر لتحقيق المصالحة، كما أن مبتوري الأطراف الذين يعرفون المسؤولين عن الهجمات التي لم يشفوا منها بعد، من الصعب أن يقبلوا بمصالحة بلا محاسبة الجناة، بينما قد يقبل النازحون بالتعويض بلا كشف الحقيقة ومحاسبة المسؤولين عن النزوح.

هذا التباين، داخل دائرة الضحايا أنفسهم، ينعكس على اختياراتهم، وبالتالي فإن موضوع "الوصول إلى مصالحة" دون "محاسبة المسؤولين عن الانتهاك" فيه اعتساف لحقوق الضحايا الأكثر تضرراً، كما أنه يضعنا في مأزقين الأول: إفراغ العدالة الانتقالية من مفهومها، والثاني: التعارض مع القانون.

إفراغ العدالة الانتقالية من مفهومها

هل تختل العدالة الانتقالية إذا ذهبنا إلى المصالحة مباشرة بدون مساءلة مرتكبي الانتهاكات؟ تبادر إلى ذهني هذا السؤال حين اطلعت على دراسة "الطريق إلى السلام في اليمن".

وأنا أبحث في الموضوع، وجدت رداً لافتاً يؤكد بأن المصالحة بلا محاسبة أو مساءلة، يفرغ العدالة الانتقالية من مفهومها، بل ويمكن لقانون المصالحة هذا أن يمنح مرتكبي الانتهاكات حصانة تعفيهم من المساءلة القضائية.

من المدهش أن هذا ورد في سياق تعقيب من قانوني متخصص في العدالة الجنائية هو القانوني خالد الجمرة، على مادة صحفية كتبتها سنة 2012 عنوانها: «العدالة الانتقالية.. القفص الذي لم يدخله أحد حتى الآن» لا أعرف ماذا كتبت حينها تحديداً ولم أقرأ الرد الذي أشار إلى اسمي والصحيفة التي نشرت المادة، وهي صحيفة الأهالي.

وبحسب الجمرة، وكان عضو المركز اليمني للعدالة الانتقالية حينها، إلى خطأ وقعتُ فيه وهو تصوري بأن مسودة مشروع العدالة الانتقالية تضمن «ملاحقة قضائية للمسئولين المفترضين عن الانتهاكات المرتكبة في اليمن خلال فترة الحكم الفائتة، وأن هذا هو سبب الخلاف الذي يدور الآن بين مؤيدي المشروع ومعارضيه» لكن وكما يضيف «وبالاطلاع على مسودة مشروع قانون العدالة الانتقالية يجد المطلع إن المشروع استبعد تماماً عنصر الملاحقة القضائية واستبقى العناصر الأخرى للعدالة الانتقالية وهي:1ـ تقصي الحقائق. 2ـ الإصلاح المؤسسي. 3ـ جبر الضرر (التعويض المادي) 4ـ إحياء الذكرى (التعويض المعنوي).

وأكد الجمرة بأن المشروع لو طُبِّق بهذا الشكل الذي يخلو من أهم معيار من المعايير الدولية للعدالة الانتقالية وهي الملاحقة القضائية: «سيعفي كل المسئولين المتسببين عن أعمال الانتهاكات في الماضي من أي ملاحقات قضائية.. فالمشروع هو أقرب ما يكون إلى كونه قانوناً للمصالحة يجبر الأهالي عن التنازل عن حقهم في متابعة المسئولين عن الانتهاكات قضائياً مقابل الاكتفاء بتعويضات مالية ومعنوية تدفع لهم وتتكفل بها الدولة عن طريق المخصصات الممنوحة من الدول الداعمة». ونبّه الجمرة، الذي قرأت رده للأسف بعد 13 سنة، بأن الخلاف حول مسودة المشروع يدور حول لجنة حصر الانتهاكات ورصدها ومن ثم تعويض المتضررين منها تعويضاً معنوياً ومادياً تقوم الحكومة بتدبيره ودفعه للضحايا وأهاليهم، مضيفاً بأنه «حتى لو تم رصد هذه الانتهاكات فإنه لن يتم تقديم المسئولين عن ارتكابها إلى العدالة فمشروع القانون استبعد هذا المعيار الدولي المهم للعدالة الانتقالية واستعاض عن ذلك بدفع تعويضات مالية ومعنوية حتى غدا هذا المشروع وكأنه قانون حصانة».

التعارض مع جوهر القانون في كتابه المهم «العدالة الانتقالية والمصالحة اليمنية.. معوقات التطبيق ومقومات المصالحة في اليمن» الصادر سنة 2013، أشار الدكتور حميد اللهبي، إلى جملة من معوقات العدالة الانتقالية، وأبرز معوقين في الحالة اليمنية، هما:1ـ التوافق السياسي: إذ ـ وقتها ـ توصل الأطراف المتصارعة إلى تسوية وتقاسم السلطة، والبدء في عملية تطبيع الأوضاع، والاتفاق على عدالة تصالحية غير جنائية، وهذا لا يحقق الإنصاف للضحايا. 2ـ الحصانة وانعدام الوعي القانوني: أثرى الدكتور اللهبي، النقاش حول الحصانة الممنوحة للرئيس الأسبق علي صالح ومعاونيه، وفقاً للفقرة 3 من المبادئ الأساسية للمبادرة الخليجية التي نصت على: «في اليوم التاسع و العشرين من بداية الاتفاق، يقر مجلس النواب بمن فيهم المعارضة القوانين التي تمنح الرئيس ومن عمل معه خلال فترة حكمه، الحصانة من الملاحقة القانونية والقضائية..» بينما نصت الفقرة 5: «تلتزم كافة الأطراف بوقف كل أشكال الانتقام والمتابعة والملاحقة من خلال ضمانات وتعهدات تعطى لهذا الغرض». وبالفعل صدر قانون الحصانة رقم 1 لسنة 2012، ونصت المادة 1 منه على الآتي: «يمنح الأخ علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية الحصانة التامة من الملاحقة القانونية والقضائية» كما نصت المادة 2 على: «تنطبق الحصانة من الملاحقة الجنائية على المسؤولين الذين عملوا مع الرئيس في مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والأمنية فيما يتعلق بأعمال ذات دوافع سياسية قاموا بها أثناء أدائهم لمهامهم الرسمية ولا ينطبق ذلك على أعمال الإرهاب». وبحسب اللهبي، فإن قانون الحصانة هذا، يكشف عن انعدام الوعي القانوني، فهو يثبت الانتهاكات ولا يلغيها، ولا يسقط الملاحقة الدولية. وعاد إلى المادة 539 من قانون الإجراءات الجزائية التي تجيز إصدار العفو الشامل بقانون في حالات: ـ أن يكون هناك فعل إجرامي منصوص ومعاقب عليه في القانون ـ أن يكون الفعل الإجرامي قد ارتكب فعلاً من شخص أو عدة أشخاص ـ أن تكون ظروف قوية دفعت مرتكب الفعل الاجرامي إلى ارتكابه مثل حالات الحروب والكوارث الطبيعة.. وتنص المادة 539 من قانون الإجراءات الجزائية على الآتي: يكون العفو الشامل بقانون وهو يمحو صفة الجريمة فلا تقبل الدعوى الجزائية عنها ولا يجوز الاستمرار فيها إذا كانت قد رفعت وإذا كان قد صدر حكم بالإدانة اعتبر كأن لم يكن، أما العفو الخاص فيكون بقرار من رئيس الجمهورية» الفقرة نفسها من المادة المشار إليها تؤكد «لا يمس العفو بنوعيه حقوق الغير إلا بموافقتهم..». وفي مرافعة طويلة، يبين اللهبي أن المصالحة بلا آلية مساءلة، تتعارض مع جوهر القانون الإنساني.

كما تتعارض مع المادة 51 من الدستور اليمني الذي ينص على الآتي: «لكل مواطن الحق في أن يلجأ إلى القضاء لحماية حقوقه ومصالحه المشروعة». الغريب في الموضوع، أن المادة 51 من الدستور، استخدمها المنتمين لحزب المؤتمر الشعبي العام كإحدى المبررات لرفض مشروع العدالة الانتقالية سنة 2012.
لكن الحقيقة أن العدالة الانتقالية تصب في قلب هذه المادة الدستورية وتثبتها، ذلك أن إجراءات المساءلة وإن كانت صورية في العدالة الانتقالية، محددة بطابع قضائي، باعتبار هذه الخطوة مهمة وأساسية لاستعادة الثقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة.
خلاصة القول، إن ما نحتاجه لتذليل العقبات أمام العدالة الانتقالية، هو الاتفاق على آلية للمساءلة والمحاسبة، بحيث تتخلص الأطراف من مخاوف ملاحقة مرتكبي الانتهاكات، ويُنصف الضحايا، ويحصد اليمنيون ثمرة العدالة الانتقالية بإعلان المصالحة.

تم إنتاج هذا المقال ضمن مشروع سبارك، الذي تنظمه منظمة سام للحقوق والحريات و رابطة أمهات المختطفين، بدعم من معهد DT