احذروا… فالمعركة لم تعد في الجبهات العسكرية بل في جيوبكم

أعلنت جماعة الحوثي يومي السبت والأربعاء الماضيين عن طرح عملات نقدية جديدة من فئتي خمسين ريالًا معدنية ومئتي ريال ورقية، في خطوة تُعد امتدادًا صريحًا للحرب الاقتصادية المفتوحة التي تديرها الجماعة منذ سنوات، وتهديدًا بالغ الخطورة لما تبقى من النظام النقدي والمالي في اليمن، ولا أقول هذا الآن كتحليل لاحق، بل تأكيدًا لتحذيرات سبق أن أطلقتها بوضوح قبل أكثر من ثلاث سنوات، حين نبهتُ الجهات الرسمية – وعلى رأسها الحكومة الشرعية والبنك المركزي في عدن – إلى أن الحوثيين يسيرون بخطى مدروسة نحو بناء نظام نقدي موازٍ، وأن عملية السك والطباعة قادمة لا محالة، سواء بعنوان مواجهة التالف النقدي أو بحجة تسهيل المعاملات، لكن، ويا للأسف، لم تُؤخذ تلك التحذيرات على محمل الجد، بل قوبلت بالتشكيك، وربما بالسخرية.
ما حدث يتجاوز فكرة استبدال أوراق تالفة أو تحسين التداول، إذ يعكس توجهًا صريحًا وتحركًا منظّمًا نحو فرض واقع نقدي مغاير يعمّق الانقسام ويهدد ما تبقى من النظام المالي، ومحاولة مكشوفة لتقويض السيادة المالية للدولة اليمنية، وتعدٍّ صارخ على صلاحيات ووظائف البنك المركزي اليمني في عدن، الجهة الشرعية الوحيدة المخوّلة بإدارة وسك وطبع وإصدار وسحب وإتلاف النقود بشتى أنواعها وفئاتها، وبناءً عليه، فإن العملة التي سكّها أو طبعها الحوثيون، سواء كانت معدنية أو ورقية، تُعد عملة مزورة لا قيمة قانونية لها، كونها لم تصدر عن مؤسسة شرعية، بل عن بنك خاضع بالكامل لسلطة ميليشيا مصنّفة دوليًا ضمن الجماعات الإرهابية، ويكفي أن نعلم أن التوقيع على الورقة النقدية الجديدة من فئة 200 ريال كان بواسطة منتحل صفة "محافظ البنك المركزي اليمني"، وهو شخص مدرج على قوائم العقوبات الأمريكية، حتى ندرك حجم الكارثة القانونية والاقتصادية المترتبة على التعامل بهذه العملات.
ما يقلقني على نحو خاص هو ما ينتظر القطاع الخاص، والتجار، والمصارف، فهؤلاء هم أول من سيدفع الثمن إذا ما قبلوا بهذه العملات وساهموا في انتشارها وإضفاء صفة الأمر الواقع عليها، فالتاجر الذي يقبلها قد يكتشف لاحقًا أنه بات يحتفظ بنقود بلا غطاء قانوني ولا اعتراف دولي، بل ويصبح مهددًا بالإدراج ضمن قوائم العقوبات، والبنك أو شركة الصرافة التي تتعامل بها قد تجد نفسها في مواجهة عقوبات دولية مباشرة، باعتبارها جهة سهّلت عمليات مالية لصالح كيان غير شرعي مصنّف إرهابيًا، وهذا الخطر لم يعد نظريًا، فقد صدرت تحذيرات صريحة من البنك المركزي اليمني في عدن، بدعم من دول كبرى كـالولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، والاتحاد الأوروبي، تؤكد أن أي تداول بهذه العملات يُعد مشاركة غير مباشرة في جريمة تزوير نقدي، وأن عمليات السك والطبع غير الشرعية تُعد انتهاكًا للسيادة النقدية تستوجب الرد والمساءلة.
وإذا ما سُكت عن هذه السابقة، فإن ما سيأتي أشد خطرًا، فالجماعة التي تجرأت على سك وطباعة عملات نقدية تتضمن معالم رمزية من عدن وتعز – في محاولة سافرة لإضفاء شرعية زائفة – لن تتوانى مستقبلًا عن طباعة كميات غير منضبطة من النقود، خاضعة بالكامل لسياساتها الخاصة، وموجهة لخدمة مصالحها الاقتصادية والعسكرية، دون أي اعتبار للتوازن النقدي أو الاستقرار المالي، هذا وحده كفيل بتدمير ما تبقى من الاقتصاد اليمني، وإغراق السوق بسيولة وهمية تؤدي إلى تضخم منفلت، وارتفاع جنوني للأسعار، وتآكل شامل للقوة الشرائية، كما أن إصدار عملات من دون غطاء، يعمّق أزمة الثقة بالريال اليمني، ويقود إلى تدهور متسارع في قيمته، ويفتح الباب واسعًا أمام توسّع السوق السوداء بوصفها ملاذًا مضطربًا لتبادل العملات، ويعزز الانقسام المالي، ويدفع الفاعلين الاقتصاديين والمواطنين على حد سواء إلى الاعتماد المتزايد على العملات الأجنبية في معاملاتهم اليومية، وهو ما يعني باختصار فقدان السيادة النقدية بالكامل، والأسوأ من ذلك، هو احتمالية أن تقدم الجماعة على تزوير الطبعة الحديثة للعملة الوطنية، تلك التي يصدرها البنك المركزي في عدن وتُتداول في مناطق الشرعية، مما سيجعل السوق اليمنية لا تعاني فقط من ازدواجية نقدية، بل من عملة مضروبة بالكامل، يصعب تمييزها ظاهريًا، لكنها قادرة على الفتك بالنظام المالي جوهريًا.
ويكفي أن نلقي نظرة على المشهد الراهن لندرك حجم الكارثة: هناك طبعتان مختلفتان للعملة، إحداهما قديمة تُتداول في مناطق الحوثيين، وأخرى حديثة في مناطق الشرعية. هناك أيضًا سعران مختلفان لصرف الدولار في صنعاء وعدن، وورقتان من فئة 200 ريال تختلفان في التصميم والجهة المصدرة، لكنهما تُتداولان في السوق معًا، وهناك قطاع خاص مأزوم، وهناك مواطن يكتشف كل يوم أن مدخراته تتآكل، وأن نقوده تفقد قيمتها، لا بفعل آليات السوق فحسب، بل نتيجةً مباشرةً لجملة من السياسات المفروضة عليه قسرًا ومن دون شرعية.
أمام هذا الوضع، تقع المسؤولية على الجميع، على الحكومة الشرعية أن تتعامل مع هذا التصعيد بما يستحقه من حزم، لا بتصريحات غاضبة يتبعها صمت قاتل، وعلى البنوك وشركات الصرافة أن ترفض التعامل بهذه العملة رفضًا قاطعًا، لأن التهاون هنا لن يُغتفر، وعلى التجار أن يُدركوا أن قبول هذه العملة هو تهديد مباشر لأموالهم، وصفقة خاسرة لن تُغنيهم ولا تنفعهم عند انهيار السوق، وعلى المجتمع الدولي أن يفهم أن الصمت هو تفويض غير مباشر باستمرار هذه الجريمة الاقتصادية.
نحن إزاء واحدة من أخطر محاولات العبث بالسيادة الاقتصادية لليمن، وكل تهاون في مواجهتها يُعد تفريطًا مباشرًا فيما تبقى من ثقة بالنظام المالي ومكانة العملة الوطنية، فالعملة التي طرحتها جماعة الحوثي لا تستوفي أي من مقومات النقد الرسمي، ولا تحمل صفة قانونية، بل تُوظف عمدًا كأداة لفرض الانقسام وإرباك السوق وإغراقها بسيولة ملوثة، تصدر عن جماعة لا تمتلك الشرعية ولا تحترم قواعد الاقتصاد ولا السيادة، والقبول بهذه العملات تحت أي مبرر هو مقامرة بمصالح المواطنين ومشاركة ضمنية في جريمة منظمة وخيانة للأمانة الاقتصادية والوطنية، وإضفاء الشرعية على سلطة انقلابية تسعى لتفكيك ما تبقى من الدولة، واجب الرفض لا يقتصر على السلطات، بل يمتد إلى كل مواطن ومصرفي وتاجر يدرك معنى الاستقرار المالي.
احذروا… فالمعركة لم تعد في الجبهات العسكرية، بل في جيوبكم.