”حين يصبح مجلس القيادة عبئًا على الدولة”

لم يعد خافيًا على أحد أن اليمن اليوم لم يعد يتصدر طاولات القرار الإقليمي والدولي كدولة ذات سيادة واضحة أو قيادة موحدة. فمع مرور الوقت، تراجعت النظرة العالمية إلى “الشرعية اليمنية” لتراها بواقعية مؤسفة كائناً هشاً، متشظياً، غارقاً في تناقضاته الداخلية، عاجزاً عن اتخاذ قرار موحد، ولا يملك رؤية استراتيجية لإنقاذ البلاد من مصير الانهيار الكامل. وبات من الجلي أن المتغيرات الدولية والإقليمية، بما فيها تلك المتعلقة بمستقبل الصراع في المنطقة، تتجاوز اليمن كدولة، وتركز بدلاً من ذلك على التعامل مع خليط من الكيانات السياسية والعسكرية المتنازعة، التي لا يجمعها سوى الانتماء الاسمي لـ”مجلس القيادة الرئاسي”. وهو مجلس، للأسف، تحوّل من كونه أداة إنقاذ، إلى كيان يكرّس الانقسام ويغذّي الشكوك الدولية في قدرة اليمنيين على إعادة بناء دولتهم. لم يعد الحديث عن “الشرعية” اليمنية حديثًا عن كيان موحد له خطة ومؤسسات وموقف موحد، بل عن مجموعة قوى متصارعة تحت مظلة واحدة، لا توحدها سوى الصور التذكارية في المحافل الرسمية. سفراء الدول الكبرى لا يخفون استياءهم، وفي كل لقاءاتهم مع رئيس وأعضاء المجلس، يعبّرون بوضوح عن قلقهم من غياب وحدة القرار، وعن حاجتهم للتعامل مع جهة يمنية تمتلك مشروعًا وطنيًا واضحًا وقوة عسكرية موحدة. في هذا السياق، لم يكن غريبًا أن يلتف المجتمع الدولي على هذه الشرعية، ويلجأ لدعم ما يُعرف بـ”خارطة الطريق السعودية–الأممية”، ليس من باب الرغبة في تجاهل الشرعية، بل من باب اليأس من قدرتها على تمثيل مصالح اليمنيين. خارطة الطريق، بكل ما تحمله من تنازلات وشبهات، بدت لبعض العواصم الدولية كخيار أقل سوءًا، مقارنة بشرعية فقدت الحد الأدنى من القدرة على اتخاذ القرار. الفضيحة الأكبر أن بعض أطراف هذا المجلس أو القوى المحسوبة عليه باتت تتحرك في الظل لإقناع المجتمع الدولي بعدم تمكين الجيش الوطني من دخول صنعاء، بزعم أن ذلك يمثل “تمكينًا لحزب الإصلاح”. في مشهد عبثي، تحوّلت بعض مكونات الشرعية إلى خصم مباشر لمعركة تحرير العاصمة واليمن، بل وتحاول تقديم نفسها كبديل محتمل للحوثيين في حال سقوط صنعاء، في مفارقة تفضح من يُفترض أنهم يقاتلون لاستعادة الدولة، بينما هم في الحقيقة يتوجسون من انتصارها، إن لم يضمن لهم مكاسبهم الضيقة. هذه الرسائل لا تحتاج إلى تفسير هناك من يخشى النصر إن لم يكن تحت قبضته، وهناك من يفضل بقاء الحوثي كخصم على انتصار الجيش الوطني الذي لا يخضع لسلطته المباشرة. في كلا الحالتين، لا الحديث هنا عن مشروع وطني، بل عن مشاريع صغيرة تتغذى على الانقسام وتُراهن على الفشل. بمرور الوقت، لم يعد مجلس القيادة الرئاسي مجرد كيان عاجز، بل تحوّل إلى جزء أساسي من معضلة الانهيار الوطني. التنازع بين أعضائه، والتدخلات الإقليمية التي تدير مواقفهم، وغياب أي مشروع وطني جامع، حولوا هذا المجلس إلى عبء على ما تبقى من الدولة. ومع الانهيار غير المسبوق للعملة، والشلل الحكومي التام، وغياب أي خطة إصلاحية اقتصادية أو إدارية، فإن استمرار المجلس بهذه البنية المتصدعة يمثل خطرًا وجوديًا على اليمن، لا مجرد أزمة سياسية. إن استمرار حالة الانقسام داخل مجلس القيادة يكرّس فشل الشرعية، ويغلق الباب أمام أي دعم دولي حقيقي لمعركة استعادة الدولة. فالعالم، كما أثبتت تجارب كثيرة، لا يدعم سوى الكيانات التي تملك قرارها، وتوحّد قواها، وتطرح مشروعًا جامعًا، لا تلك التي تنقسم على نفسها وتتربص ببعضها أكثر من تربصها بالعدو. وفي هذا السياق، لم يعد أمام أعضاء مجلس القيادة خيار سوى التخلي عن مشاريعهم الفئوية والمناطقية والحزبية، والانحياز الكامل للمشروع الوطني الجامع، المشروع الذي لا يحتكر المستقبل، بل يفتحه أمام الجميع. المشروع الذي لا يخشى من انتصار معركة التحرير، بل يسعى لتحقيقه. في ظل هذا الانهيار الاقتصادي المروع، ومع تآكل ما تبقى من ثقة الناس بالقيادة، فإن أي تأخير في اتخاذ قرار توحيد الجبهة السياسية والعسكرية، لا يُعد مجرد خطأ سياسي يمكن إصلاحه لاحقًا، بل هو خيانة وطنية كاملة الأركان، يدفع الشعب اليمني ثمنها كل يوم من قوته وكرامته ومستقبله. وإن لم يبادر مجلس القيادة، اليوم، الآن، لا غدًا، إلى القيام بما يجب، فإن التاريخ لن يسجل أسماءهم في خانة المنقذين، بل في خانة المتقاعسين، أولئك الذين سلّموا اليمن لقوى الخراب، وضيّعوا لحظة الحقيقة الأخيرة، بينما كانت البلاد تستصرخهم بخلاصها. لم يعد اليمن بحاجة إلى مزيد من الخطابات أو البيانات أو التبريرات، بل إلى قرارات حاسمة، ومواقف رجولية، واصطفاف وطني صادق يعيد رسم مستقبل البلاد. الشرعية لا تُمنح، بل تُبنى، واليمن لا يُنقذ من الخارج، بل من داخله. وإن لم يصنع القادة الحاليون هذا الإنقاذ، فإن الشعب والتاريخ لن يرحموا أحدًا.