لا عيد للوطن فى صنعاء!

هذا الأسبوع، فرضت جماعة الحوثى احتفالا جديدا تحت مسمى «ذكرى قدوم الإمام الهادى»، فى سياق منهج مذهبى يُكرّس الانقسام، ويُعمّق الشرخ فى الوجدان الوطني. ومن يتأمل المشهد فى صنعاء يدرك أنه لا عيد للوطن هناك، فالجماعة ألغت كل المناسبات الوطنية الجامعة، واستبدلتها بطقوس مذهبية لا تمت بصلة لهوية اليمنيين، بل تُغتال بها الهوية، وتُزرع بها الفُرقة. على مدى عقد كامل، لم تُحتفل صنعاء بيوم 22 مايو، العيد الوطنى الرسمى لليمن وهو يوم ذكرى إعلان الوحدة اليمنية 1990، ولا بثورتى 26 سبتمبر و14 أكتوبر، اللتين أرستا دعائم الدولة الحديثة. هذه المناسبات يتم إسقاطها من الوعى العام، وتُقبر رسميا فى مناطق سيطرة الجماعة. فى المقابل، استُحدث تقويم مذهبى جديد، بات يحكم المزاج العام والفضاء السياسى والاجتماعى فى صنعاء. مناسبات مثل «يوم الولاية»، و«يوم الغدير»، و«ذكرى الشهيد»، بل وحتى ذكرى وفاة والد زعيم الجماعة الحوثية، أصبحت هى الأعياد الوحيدة التى تُفرض على الناس من خلال الإعلام، والمؤسسات التعليمية، والأجهزة الأمنية. هذا التحول لم يكن شكليا. بل ترافق مع إنتاج ثقافة شمولية جديدة، قائمة على فكرة «الاصطفاء الإلهى»، والطاعة العمياء، والتعبئة النفسية والعقائدية، التى تتكرس عبر «دروس التثقيف» وظهور متكرر لزعيم الجماعة، لا يقل عن مائة ظهور وخطاب فى العام الواحد بمعدل مرة كل ثلاثة أيام. لقد تجاوز الأمر حدود المناسبات والرمزيات، ليصل إلى تفكيك بنية الدولة داخل الوعى العام. صارت مفاهيم مثل المواطنة، والدستور، والوحدة، والشراكة، موضع تشكيك وريبة، بينما تُعاد صياغة مفاهيم الانتماء من منظور طائفى ضيق، لا يعترف بالتنوع ولا بالمساواة. المفارقة المأساوية أن الجماعة تزعم الدفاع عن «وحدة اليمن»، بينما هى الأكثر تورطا فى تفريغ هذه الوحدة من مضمونها، عبر تكريس سلطة دينية مغلقة، تقوم على التمييز السلالى، ورفض فكرة الدولة الحديثة. وعبر تكريس الانقسام المجتمعى والسياسى، وتقسيم كل المؤسسات من البرلمان والنظام القضائى الى البنك المركزى وتشطير النظام النقدى بالبلد. الى كل مناهج التربية والتعليم. ما تطرحه الجماعة ليس مجرد وضع سياسى مؤقت، بل هى فكرة موغلة بالتطرف لتكريس مشروع سلطوى عنصرى، يسعى لصناعة ذاكرة جديدة، تُقصى التاريخ الوطنى، وتُمزّق رموزه، وتفرض قراءات مختلقة محمّلة بالصراع المذهبى والتشظى المجتمعى. وفى ظل غياب المشروع الوطنى الجامع، وتراجع الأحزاب، وابتعاد النخب عن دورها، يجد المواطن نفسه وحيدا أمام مشهد قاتم، تملؤه الميليشيات بخطابات متطرفة تُمزق الهوية وتُضعف الانتماء، وتُجهض الحلم. الخطر الحقيقى لا يكمن فقط فى احتكار السردية الوطنية، بل فى إعادة تشكيل وعى الأجيال على أساس الانتماء الضيق، وتمزيق رموز الوطن الكبرى لصالح تاريخ مختلق ومشحون بالحقد. ولا سبيل لمواجهة ذلك إلا باستعادة صوت الدولة، وبناء مؤسساتها، واستنهاض روح المشروع الوطنى الجامع. آن للأحزاب والنخب أن تغادر مواقع التردد، وأن تعود بخطاب عقلانى وشجاع، يعكس معاناة الناس ويرتقى إلى حجم التحدي. نحن بحاجة إلى نخب تُعيد الأمل، تقاوم الاستسلام، وتفتح أفقا جديدا يقوم على التعدد والشراكة والمواطنة. تعود إلى الفعل بخطاب وطنى شجاع، يُلامس وجع الناس، ويعيد إحياء الحلم المغدور. نخب تقاوم الاستسلام، وتعيد الأمل، وتفتح أفقا جديدا، يؤمن بأن اليمن وطن لكل أبنائه، لا حقل طقوس مذهبية مغلقة. نعم، الطريق شاق، لكن التواطؤ مع الانهيار، حتى بالصمت، هو الأخطر. فأسوأ من الموت أن نُنسى. وأسوأ من أن نفقد الوطن... أن نقبله مجرد ظل باهت فى ذاكرة ممسوحة، بلا عيد، بلا مستقبل واحد، بلا حلم.
الأهرام