20 ألف عقوبة على روسيا .. كيف تحولت القيود إلى درع للاقتصاد الروسي؟

يعيش الاقتصاد الروسي تحت ضغط غير مسبوق من العقوبات الغربية التي بلغت أكثر من 20 ألف عقوبة منذ أكثر من عقد، جعلت موسكو أكثر دولة في العالم تتعرض لمثل هذا الكم من القيود الاقتصادية والمالية، ورغم حدتها وشمولها لمفاصل حيوية مثل الطاقة والنظام المالي، إلا أن روسيا أظهرت قدرة مفاجئة على التكيف، بل واستغلال بعض تلك الإجراءات في إعادة تشكيل اقتصادها وفق ما يشبه "اقتصاد الحرب"، وفي هذا التقرير يرصد المشهد اليمني تطور العقوبات الغربية على روسيا منذ 2014، وكيف تعاملت موسكو معها حتى غدت أكثر مناعة أمام الضغوط الاقتصادية.
بداية القصة ضم القرم وإطلاق الشرارة الأولى
عام 2014 كان نقطة التحول الكبرى، حين أقدمت موسكو على ضم شبه جزيرة القرم بعد استفتاء وصفه الغرب بـ"غير القانوني"، أعقب الخطوة سيلاً من العقوبات الأميركية والأوروبية شمل مسؤولين سياسيين وعسكريين، ثم امتد سريعاً إلى المؤسسات المالية الكبرى مثل غازبروم بنك وروسنفت للطاقة.
لاحقاً، اتسعت القائمة لتشمل قيوداً على التجارة، حظر دخول منتجات القرم، وحجب التكنولوجيا الدفاعية عن روسيا، وسرعان ما تحولت العقوبات إلى أداة ضغط متصاعدة تهدف لإضعاف الاقتصاد الروسي وعزل موسكو عن النظام المالي العالمي.
حادثة الطائرة الماليزية لحظة فارقة
في يوليو 2014، أدى إسقاط الطائرة الماليزية فوق أجواء أوكرانيا إلى تصعيد غير مسبوق، حيث فرضت واشنطن عقوبات مباشرة على قطاع النفط الروسي لأول مرة، بينما تبعها الاتحاد الأوروبي بتشديد القيود على التكنولوجيا المتقدمة.
أصبحت موسكو فجأة أمام واقع اقتصادي جديد، يفرض عليها البحث عن بدائل محلية واستراتيجيات تحد من اعتمادها على الغرب.
الرد الروسي حظر غذائي واستبدال واردات
جاء الرد الروسي سريعاً، إذ فرضت الحكومة حظراً على استيراد معظم المنتجات الغذائية من الولايات المتحدة وأوروبا، ولكن هذه الخطوة لم تكن مجرد رد فعل سياسي، بل تحولت إلى سياسة اقتصادية طويلة الأمد لتعزيز الإنتاج المحلي في القطاعين الزراعي والصناعي.
أنشأت موسكو صندوق التنمية الصناعية لدعم المشاريع المحلية، وأعادت هيكلة سلاسل الإمداد بما يقلل من هشاشة الاقتصاد أمام القيود الغربية.
بين 2014 و2021 خسائر ثم تعافٍ
لم يكن الطريق سهلاً، فقد شهد الاقتصاد الروسي انكماشاً بنسبة 2% في 2015، وارتفاعاً في التضخم بلغ 16.9%، بينما فقدت العملة الروسية نصف قيمتها تقريباً خلال بضع سنوات.
لكن بمرور الوقت، بدأت مؤشرات التعافي تظهر، ففي 2019 عاد النمو ليسجل 2.8%، وبلغ 5.9% في 2021، ما أكد نجاح موسكو جزئياً في امتصاص صدمة العقوبات الأولى.
الموجة الثانية حرب أوكرانيا 2022
مع إطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، دخلت العقوبات مرحلة جديدة أكثر شمولاً، وهذه المرة لم يقتصر الأمر على الأفراد أو الشركات، بل طال الاحتياطيات النقدية للبنك المركزي الروسي حيث تم تجميد أكثر من 330 مليار دولار، إضافة إلى فصل عدد من البنوك عن نظام سويفت.
كما فرض الغرب قيوداً على تصدير التكنولوجيا "مزدوجة الاستخدام"، وحظر واردات النفط والفحم الروسي، وابتكر آلية "السقف السعري" للخام، في محاولة لتقليص عوائد روسيا من صادرات الطاقة.
الطاقة: سلاح موسكو المضاد
أمام هذا الضغط، لجأت روسيا إلى استخدام ورقتها الأقوى، الطاقة، فرضت آلية الدفع بالروبل على "الدول غير الصديقة"، وأوقفت الإمدادات عن دول أوروبية رفضت الالتزام.
أدى ذلك إلى أزمة طاقة خانقة في أوروبا، وارتفاع أسعار الغاز والنفط، بينما عززت روسيا علاقاتها مع دول مثل الصين والهند وتركيا التي لم تنضم لحملة العقوبات، ووسعت ما يعرف بـ"أسطول الظل" لنقل النفط بعيداً عن أعين القيود الغربية.
التحول إلى اقتصاد الحرب
على المستوى الداخلي، ضخت موسكو إنفاقاً عسكرياً ضخماً وصل إلى 6.2% من الناتج المحلي الإجمالي في 2025، مقارنة بـ3% فقط قبل الحرب، وهذا الإنفاق دعم النمو الاقتصادي ليسجل 4.3% في 2024، متجاوزاً الولايات المتحدة وأوروبا.
لكن في المقابل، واجه المواطن الروسي تضخماً مرتفعاً ونقصاً في السلع والمنتجات المستوردة، إضافة إلى شح في اليد العاملة بسبب تجنيد مئات الآلاف في الخدمة العسكرية.
هل أصبحت روسيا أكثر مناعة؟
يرى خبراء أن العقوبات الأولى عام 2014 منحت موسكو وقتاً ثميناً لإعادة ترتيب أوراقها، وبناء آليات بديلة للمدفوعات والتمويل، ولو كانت العقوبات الغربية آنذاك أكثر تنسيقاً وشمولاً، ربما كان تأثيرها على روسيا في 2022 أكبر بكثير.
اليوم، وبعد عقد كامل من الضغوط، أظهرت روسيا قدرة على التكيف، وإن كان ذلك بكلفة اجتماعية واقتصادية مرتفعة، فهي لم تنهار كما توقع الغرب، لكنها دفعت ثمناً باهظاً من رفاهية مواطنيها في سبيل الحفاظ على صمود اقتصادها.
المشهد الأخير
أكثر من 20 ألف عقوبة لم تكسر ظهر الاقتصاد الروسي، لكنها غيّرت ملامحه كلياً، وتحولت موسكو من اقتصاد منفتح نسبياً إلى اقتصاد حرب يعتمد على الاكتفاء الذاتي والتحالفات مع الشرق، ومع استمرار الصراع في أوكرانيا، يبقى السؤال مطروحاً، هل ستواصل روسيا صمودها أمام العقوبات، أم أن الضغوط المتراكمة ستجعلها في النهاية تدفع ثمناً أكبر مما تتوقع؟.