المشهد اليمني

خمسة نوفمبر.. حركة تصحيحيّة؟ أم انقلاب على النظام؟!

الثلاثاء 9 سبتمبر 2025 02:59 مـ 17 ربيع أول 1447 هـ
خمسة نوفمبر..  حركة تصحيحيّة؟ أم انقلاب على النظام؟!


ضمن التعليقات على لقائي الأخير في قناة العربية، في برنامج "سجال" مع الأستاذ مشاري الذايدي، عاتبني أحد الأصدقاء المثقفين على موقفي من خمسة نوفمبر 1967م التي أرجح فيها القول أنها حركة تصحيحية، فيما يرى آخرون أنها انقلاب على نظام السلال. ورغم أني قد أوضحت رأيي له في رسالة قصيرة على الواتس؛ لكني فضلت التوسع قليلا هنا، لتوضيح الصورة من جميع جوانبها، ولإتاحة الفرصة لتعقيبه هو، أو غيره ممن يرون عكس ما أرى، تعميمًا للفائدة.

أقول: خمسة نوفمبر 1967م الممكن السياسي، وطوق النجاة الوحيد في لحظات الغرق، بصرف النظر عن الأخطاء والخطايا التي رافقتها وأنهتها أيضا بالانقلاب الأبيض في 13 يونيو 1974م، بقيادة العقيد، "المقدم لاحقا" إبراهيم الحمدي.

في الواقع لا يكفي قراءة العناوين العريضة لما بعد يوم السادس والعشرين من سبتمبر 62م، ولا الروايات المتحيزة لهذا الطرف أو ذاك، ولا تتضح الصورة من جميع جوانبها بقراءة مصدر أو عشرة، أو عشرين مصدرا؛ بل لا بد من الإلمام بكل ما كُتب عن هذه المرحلة، من المتفقين والمختلفين معًا، ولا بدّ من الوقوف على تفاصيل التفاصيل الدقيقة، كعادة أي قضية مركّبة ومعقدة وشائكة، لا يكفي النظر إليها من زاوية واحدة للحكم عليها.

وقبل الولوج في توضيح الصورة، نود الإشارة إلى واحدةٍ من المسلّمَات السبتمبرية الجمهورية الوطنية التي لا نشك فيها قيد أنملة، وهي أن أغلبية الوجوه الثورية، إن لم تكن كلها ذات منزع وطني صادق ومخلص للقضية، على تناقضاتهم وصراعاتهم الحادة: السلال، جزيلان، الزبيري، الإرياني، نعمان، العواضي، عثمان، العَمري، إلى آخر هذه القائمة الطويلة. وإن نظرتنا للخلافات التي وقعت بينهم، كنظرتنا للخلافات التي حصلت بين صحابة رسول الله. وكفاهم شرفا ونبلا وفخرا أنهم قضوا على أسوأ نظام كهنوتي دمر اليمن واليمنيين، وأنهم انتزعوا نظاما جمهوريا جديدًا من مخالب الوحش المتربص، ولسان حالنا تجاههم: "لا نفرق بين أحدٍ منهم"، وبطبيعة الحال، لم أذكر هنا البطل الشهيد علي عبدالمغني، لعدم دخوله في الصراع، بطبيعة الحال؛ كونه استشهد في الأيام الأولى للثورة. ونستعرض هنا أهم النقاط فيما بين 62، وحتى 67م:

أولا: من نافلة القول الإشارة إلى أنّ الصف الجمهوري الواحد قد دخل في خلافات داخلية داخلية من الأيام الأولى للثورة، يعرفها الجميع، خلافات الرئيس السلال مع جزيلان، ثم خلافاته مع البيضاني، ثم خلافاته مع ما عُرف بجناح المحافظين: القضاة والمشايخ، ولعل خلافه مع الأخيرين راجع إلى موقفهم من المصريين الذين كان يرى فيهم السلال المنقذ الوحيد للثورة، ولا يصح اتخاذ موقف مناوئ تجاههم، مهما كان الأمر.

الغريب أن هذه الانشقاقات والخلافات لم تنته بانتهاء حكم السّلال نفسه، بل استمرت بعد مغادرته المشهد، وسيطرة جناح المحافظين هؤلاء من المشايخ والقضاة والمقربين منهم أيضا الذين اختلفوا فيما بينهم لاحقا، وسنفرد حلقة خاصة لذلك. هذا الخلاف والصراع نتاج عدة عوامل بعضها ذاتي يتعلق بالفريق الجمهوري الواحد، وبعضها موضوعي يتعلق بأجندات اللاعبين الكبار من خارج سياق المعادلة اليمنية، إذ الثورة قامت في ظل استقطابات دولية كبرى وحرب باردة، وعوامل أخرى.. إلخ.

ثانيا: بالنظر إلى قائمةِ القاعدةِ التأسيسية لتنظيم الضباط الأحرار، مع فروعها نجد أن قيادة التنظيم قد غادرت المشهد السياسي مع أول يوم للثورة نحو الميدان العسكري، واستشهد بعضها، كالملازم الشراعي، أول شهيد في الساعة الأولى، والملازم صالح الرحبي ثاني شهيد يوم 28 سبتمبر، ثم علي عبدالمغني في 4 أكتوبر 62م، وغيرهم الكثير ممن ابتلعتهم جبهات القتال، إلى جانب أخلص المخلصين من المدنيين أيضا، الشهيد علي محمد الأحمدي، وزير الإعلام الذي رفض دخول مكتبه، واتجه إلى جبهات القتال، أنموذجًا.
ولن نتكلم هنا عن التصفيات التي طالت بعض رموز البعث، سواء الجسدية، أم النفي خارج اليمن، ولو بمناصب شكلية، كتعيين الشيخ سنان أبو لحوم سفيرا لليمن في الصّين!!، للاشتباه بكونه بعثيا..!! ليس البعث فحسب؛ بل حتى بعض المستنيرين تم إبعادهم عن المشهد، كالأستاذ نعمان الذي احتُجز بالقاهرة لأشهر طويلة، وكذلك اللواء الجائفي، تم تعيينه في منصب عسكري شكلي في القاهرة. "رئيس وفد اليمن في القيادة العسكرية المشتركة بالقاهرة".
هذا المشهد أثر على المسار الصحيح للجمهورية، والنظام المنشود الذي كان في أذهان النخبة المستنيرة.

ثالثا: ضعف التجربة السياسية لدى قيادة الثورة، حيث كان اليمنيون محرومين من أي قيادة سياسية عليا في ظل نظام الإمامة الكهنوتي الذي كان ممسكا بكل المناصب العليا، فوجد الثوريون الجدد أنفسهم فجأة في قُمرة القيادة بلا تجربة كافية لإدارة الخلافات والتباينات التي تحدث بين الفريق الواحد، إضافة إلى عامل السِّنِّ نفسه، كانوا جميعا شبابا، في العشرينيات والثلاثينيات، وكان السلال ــ أكبرهم ــ شابا في الخامسة والأربعين من عمره..!

ثالثا: لم يرث الأحرار دولة بمؤسسات، أو شبه مؤسسات قائمة، بأنظمتها ولوائحها، حتى تكون هذه اللوائح حَكَمًا فاصلا بينهم إذا ما اختلفوا، كما هو الشأن في مصر التي ورثت ثورتها مؤسسات قائمة وراسخة، استقرت الأوضاع فيها بعد شهرين فقط، لا غير، فيما استمر الصّراع في اليمن ما يزيد عن سبع سنوات، فنظام الإمامة لا يعرف المؤسسات ولا الأنظمة واللوائح. فقط يعرف "حقه الإلهي المقدس" لا غير..! بمعنى أن الأحرار بدأوا من الصِّفر تماما، ومن الطبيعي إذن أن يكون ثمة نزاع وشقاق بين الفريق الواحد.

رابعا: بالنظر إلى المؤسسة السيادية الأولى في الدولة "رئاسة الجمهورية" نتوقف حجم التعديلات التي طالتها من ثاني يوم لقيام الثورة:
1ــ مجلس قيادة الثورة 27 سبتمبر، 62م، 30 عضوا. "بمن فيهم أعضاء الحكومة".
2ــ مجلس الرئاسة 17 أبريل، 63م 32 عضوا.
3ــ مجلس القيادة، 6 يناير 64م، 9 أعضاء. "تعديل".
4ــ مجلس الرئاسة، 20 أبريل 65م، 5 أعضاء. "تعديل.
5ــ مجلس الرئاسة 12 مايو 65م، 4 أعضاء. "تعديل".
6ــ المجلس الجمهوري 4 سبتمبر 65م 6 أعضاء.

ولمتخيل أن يتخيل ما ذا يعني تغيير هيكلة المؤسسة السياديّة الأولى في البلاد بهذا الكم، وفي هذا الظرف الزمني، إضافة إلى تغييرات حكومية مصاحبة، وزارية وغير وزارية، أخذت من الجدل والشقاق ما أخذت، إضافة إلى وضع وتغيير الدستور نفسه، كمرجعية عليا، وهذا وحده فقط في عهد الرئيس السلال، رحمه الله.

خامسًا: ثمة أخطاء مارستها قوات الجمهورية العربية المتحدة "مصر"، على الصعيد السياسي، بحكم ضعف إدراكها لخصوصية المجتمع اليمني، منها محاولة فرض عبدالرحمن البيضاني وصِيًّا على الثورة، لعلاقته بالمخابرات المصرية آنذاك، وهو بلا رصيد نضالي سابق، ولا يخلو من الطيش، على ثقافته الواسعة، وقد دخل في صراعاتٍ حادةٍ مع الجميع بلا استثناء. ورحم الله المشير عبدالحكيم عامر الذي لعب دور "مطفئ حرائق" بين رفاق القضية الواحدة، بحكمته وذكائه أكثر من مرة؛ بل لم تكن زيارة الزعيم جمال عبدالناصر إلى اليمن في 23 أبريل 64م مصطحبا معه من القاهرة: الأستاذ نعمان، واللواء الجائفي، إلا لوضع حد لهذا الصراع الذي لم يتم أساسا، رغم تلبية مطالب تكتل المحافظين، وتسليمهم الحكومة ومجلس الشورى.

سادسًا: ثمة ملمح سياسي مهم لم يتم التطرق إليه بما يكفي من قبل الباحثين، وهو استناد من عُرفوا بالمحافظين وأنصارهم إلى العمق الشعبي، مقابل استناد الجناح الراديكالي الثوري، المتمثل في السلال ورفاقه إلى القوات المصرية بالدرجة الأولى؛ لهذا كان يلجأ الأول إلى المؤتمرات الشعبية، لتعزيز نفوذه، والضغط على القيادة السياسية، كمؤتمر عمران، في 2 سبتمبر 63م، ومؤتمر خمر في 2 مايو 65م، ومؤتمر وراف في إب، في 16 يوليو 66م، ومؤتمر خدار، خارج صنعاء في 15 أغسطس 66م.

سابعًا: لم تنتصف سنة 66م إلا وقد بلغ الخلافُ بين رفاق القضيّة الواحدة منتهاه، إلى حد أن الرئيس السلال رحمه الله حين عاد من القاهرة إلى صنعاء في 12 أغسطس 66م هدد الفريق العمري بعدم السماح لطائرته بالهبوط؛ بل وخوض مواجهة مسلحة معه داخل صنعاء، الأمر الذي اضطر المصريين أن يعملوا على تأمين الرئيس بلواء كامل من قواتهم في اليمن، معززٍ بـ 120 دبابة، من المطار حتى وصل منزله، الأمر الذي اعتبره المحافظون استفزازًا لهم، فعقدوا مؤتمر "خدار" خارج صنعاء، بعد ثلاثة أيام، وقرروا نقل الحكومة ومؤسسات الدولة من صنعاء إلى تعز، وإبقاء العاصمة صنعاء للرئيس السلال والقوات المصرية حد قولهم، ورغم أن الشيخ الأحمر كان من المحسوبين على هذا التكتل؛ لكنه رفض مخرجاته، وتواصل مع الفرقاء، حتى توصلوا إلى الاتفاق بالعمل بدستور خَمِر" الذي تم إعداده قبل ذلك، كحل وسط. ويُقال أن الشيخ الأحمر هدد رفاقه هؤلاء بالقول: إذا نقلتم الحكومة إلى تعز، بانعيد لكم البدر إلى عندكم".!! "لا أتذكر في هذه اللحظة المصدر الذي أخذت عنه المعلومة الأخيرة".

حصل كل هذا الصراع والشقاق بين الرفاق الأحرار، وصنعاء مطوقة بـ 45 جبهة من الإماميين المتربصين بالجميع الذين لو ظفروا بهم لعلقوا رؤوسهم على المشانق جميعا..!
أكثر من ذلك، أنّ الرئيس السّلال نفسه في 22 أغسطس 66م قد حاصر بعض أعضاء المجلس الجمهوري بالسلاح داخل المجلس، وهم: الإرياني، ونعمان، ومحمد علي عثمان، فتدخل الفريق العمري لإخراجهم بالقوة، وتسهيل خروجهم إلى تعز، ثم انتقلت الحكومة بعدهم إلى تعز، ولحقهم آخرون أيضا، ومن تعز انتقلوا إلى القاهرة، وكان ما كان من أمر اعتقالهم هناك، لما يزيد عن سنة كاملة، لم يخرجوا إلا بعد نكسة/ نكبة يونيو حزيران 67م، لينفرد الرئيس السلال بآخر مشهد له، متحالفا هذه المرة مع عبدالله جزيلان، المختلف معه سابقا، والذي قاد معركة في العُدين من إب، لمدة شهرين، وصفها سنان أبو لحوم في مذكراته بأنها عنيفة، ضد تكتل المحافظين، وقد أرسل الشيخ الأحمر قوات قبلية إلى هناك لمساندة رفاقه في التكتل..!

ثامنا: حركة خمسة نوفمبر ضد الرئيس السّلال وفريقه لم تكن ممن عُرف بجناح المحافظين من المشايخ والقضاة فقط؛ بل تحالف معهم بعضُ الرموز من اليساريين والقوميين، مثل جار الله عمر، يحيى الشامي "الأستاذ"، عبدالرقيب عبدالوهاب نعمان، حسن محمد مكي، يحيى مصلح، يحيى المتوكل، محسن العيني، حمود ناجي، وغيرهم. وهؤلاء من رموز سبتمبر، وكان بعضهم على علاقة طيبة بالسلال. وقد باركت مصر هذه الحركة ودعمتها أيضا.

وعليه: أستطيع القول أن خمسة نوفمبر حركة تصحيحية داخل النظام الواحد، لا انقلابا، كما يرى البعض، بصرف النظر عن الأخطاء والخطايا التي صاحبتها بعد ذلك.

لا ننسى الإشارة هنا إلى أن السلال نفسه كان مطلعا على كل تفاصيل الحركة، مستسلمًا لسياسة الأمر الواقع بعد طول صراع مرير مع رفاقه الأحرار إلى جانب صراعه مع أعداء الجمهورية الوليدة؛ لذا غادر صنعاء إلى القاهرة، في 2 نوفمبر، وقد كلف الإرياني بالقيام بأعمال رئيس الجمهورية، خلال فترة غيابه، وهو يعرف أنه لن يعود رئيسًا، وقد تم توديعه كرئيس من قبل رفاقه السبتمبريين الذين أوصاهم بالحفاظ على الجمهورية، كما تم استقباله في القاهرة كذلك.

أخيرًا. لا يُعتبر هذا تبريرًا لأي خطأ حصل من هذا التكتل أو ذاك، ولا تحيزًا لطرف على طرف، فقط قراءة موضوعية للمشهد السياسي الذي تراءى للكاتب، من واقع الوثائق التاريخية التي بين أيدينا. ولا نملك إلا أن أكرر القول: كثر الله خير الجميع، فلقد أوجدوا من العدم ما أضعناه نحن اليوم من بين أيدينا، كانوا عظماء وكبارا بذلك الإنجاز.

لمزيد من الاطلاع حول هذه المادة، يمكن الرجوع إلى مذكرات: الإرياني، الشيخ الأحمر، سنان أبو لحوم، يحيى مصلح، التاريخ السري للثورة، وثائق وأسرار الثورة اليمنية، ثورة 26 سبتمبر اليمنية، د. سعيد الغليسي.