الموجات المارقة من أساطير البحّارة إلى حقائق علمية تهدد السفن حول العالم

منذ مئات السنين، ظلّت قصص البحّارة عن أمواج عملاقة تظهر فجأة في قلب المحيطات تُروى كحكايات أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة، فقد كانوا يصفون جدرانًا مائية ترتفع عشرات الأمتار، تحجب الأفق وتبتلع السفن في ثوانٍ معدودة، لكن العلم تجاهل هذه الروايات طويلاً باعتبارها مجرّد مبالغات أو أساطير بحرية، واليوم، لم تعد هذه الموجات الغامضة خرافة، بل تحوّلت إلى حقيقة مثبتة تهدد حركة الملاحة البحرية وتستدعي البحث العلمي المكثّف.
أولى الشهادات الموثقة عن موجة عملاقة
في عام 1826، سجّل البحّار والعالم الفرنسي جول دومون دورفيل شهادته مع ثلاثة من رفاقه عن رؤيتهم موجة وصل ارتفاعها إلى نحو 33 مترًا في المحيط الهندي، وغير أن روايته قوبلت بالسخرية من علماء عصره، وعلى رأسهم العالم فرانسوا أراغو، الذي اعتبر أن أي موجة لا يمكن أن تتجاوز تسعة أمتار، كانت تلك القناعة السائدة في المجتمع العلمي آنذاك، مما جعل قصص البحّارة تظل في خانة الأساطير لعقود طويلة.
نقطة التحوّل.. "موجة دراوبنر"
التحوّل الحاسم جاء في الأول من يناير عام 1995، حين سجّلت أجهزة القياس على منصة نفطية في بحر الشمال موجة بلغ ارتفاعها نحو 26 مترًا، في وقت لم يكن البحر هائجًا بشدّة، وعُرفت هذه الموجة باسم "موجة دراوبنر"، وأصبحت أوّل دليل علمي قاطع على أن الموجات المارقة ليست خيالًا، بل ظاهرة فيزيائية حقيقية قد تقع في أي لحظة، حتى في ظروف بحرية مستقرة.
كيف تنشأ الموجات المارقة؟
لوقت طويل، تبنّى العلماء نظرية تُعرف بـ الاضطراب التعديلي، ومفادها أن تغييرات طفيفة في التوقيت والتباعد بين الموجات قد تؤدي إلى تراكم طاقتها في موجة واحدة ترتفع فجأة، لكن هذه النظرية صالحة فقط في أنظمة محدودة مثل التجارب المخبرية، حيث تتحرك الأمواج في اتجاه واحد.
أما في المحيطات المفتوحة، حيث تنتشر الأمواج في اتجاهات متباينة، بدا أن هذه النظرية غير كافية لتفسير الظاهرة، وهنا جاء دور دراسات حديثة قدّمت تفسيرًا أبسط وأكثر واقعية.
دراسة علمية واسعة تغيّر المفهوم
نشرت دورية Scientific Reports دراسة قادها الدكتور فرانشيسكو فيديلي من معهد جورجيا للتكنولوجيا، اعتمدت على تحليل 27 ألفًا و500 رصد لحركة الأمواج على مدار 18 عامًا في بحر الشمال، وكانت هذه البيانات الأكثر شمولًا من نوعها، حيث شمل كل رصد نصف ساعة من تفاصيل الموجة، من الارتفاع والتردد وحتى الاتجاه.
النتائج لم تدعم فرضية الاضطراب التعديلي، بل أكدت أن الموجات المارقة تنشأ غالبًا من تراكب خطي بسيط، أي عندما تتلاقى موجتان أو أكثر في نفس المكان والوقت، تتضاعف طاقتهما وتظهر موجة عملاقة، وكأن البحر يوحّد قواه مؤقتًا لإنتاج جدار مائي مرعب.
من الأسطورة إلى العلم.. نهاية الجدل
بهذه النتائج، انتهى الجدل العلمي المستمر منذ قرنين حول ما إذا كانت الموجات المارقة مجرد خرافة أو ظاهرة نادرة للغاية، فقد بات واضحًا أنها ليست قوة غامضة أو خارقة، وإنما نتيجة مباشرة لقوانين فيزيائية طبيعية، قد تحدث في أي لحظة بمجرد تزامن الظروف الموجية.
هل يمكن التنبؤ بالموجات المارقة؟
بما أن هذه الموجات تعتمد على محاذاة مؤقتة بين عدة أمواج، فإن فهم هذه الآلية يفتح الباب أمام تطوير نماذج تنبؤ جديدة، وهذه النماذج يمكن أن تعتمد على مراقبة لحظة بلحظة لحركة الأمواج واتجاهاتها، ما يتيح للسفن والمنشآت البحرية إنذارات مبكرة تمنحها وقتًا ثمينًا لتفادي الكارثة.
وقد أشارت أبحاث حديثة إلى أن الجمع بين الأقمار الصناعية وأجهزة الاستشعار البحرية قد يمكّن العلماء من توقع احتمالية ظهور موجة مارقة في مناطق محددة، ما يمثل ثورة في عالم الملاحة البحرية.
تهديد مباشر للملاحة البحرية
رغم التقدّم العلمي، لا تزال الموجات المارقة تشكّل تهديدًا كبيرًا على السفن مهما كان حجمها، فبعض الحوادث البحرية الغامضة التي لم يُعرف سببها حتى اليوم يُرجّح أنها نتجت عن هذه الأمواج، التي قد ترتفع عشرات الأمتار فجأة، دون أي مؤشرات مسبقة.
ويخشى الخبراء من أن تغيرات المناخ العالمي قد تزيد من تكرار هذه الظاهرة، مع ارتفاع مستويات البحار وزيادة قوة العواصف، مما يجعل فهم الموجات المارقة أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
من الخيال إلى الواقع
قصص البحّارة التي رُفضت طويلاً أصبحت اليوم جزءًا من الحقيقة العلمية، والموجات المارقة لم تعد أسطورة، بل هي تحدٍّ قائم يواجهه البشر في معركتهم مع البحر، وبينما يعمل العلماء على ابتكار وسائل للتنبؤ بها، يبقى احترام قوة المحيطات والتعامل معها بحذر السبيل الوحيد لتفادي مفاجآتها المميتة.