”النهاية بدأت؟ – كيف حوّلت ضربة إسرائيلية ”معقل الحصانة الحوثي” إلى بيئة من الخوف والشك”

لا تزال العاصمة اليمنية صنعاء، الواقعة تحت سيطرة جماعة الحوثي، تعيش على وقع صدمة عميقة إثر الضربة الجوية الإسرائيلية التي استهدفت اجتماعاً حكومياً رفيع المستوى قبل نحو أسبوعين، وأسفرت عن مقتل رئيس الحكومة غير المعترف بها وتسعة من وزرائها، وإصابة آخرين بجروح خطيرة.
وفي ظل استمرار الغموض حول الآلية التي تمكنت بها إسرائيل من تحديد مكان وموعده بدقة قاتلة، كشفت مصادر يمنية وثيقة الاطلاع أن الجماعة شرعت في مراجعة شاملة وغير مسبوقة لجميع إجراءاتها الأمنية، وسط حالة من التوتر والهلع تسود صفوف قيادتها العليا.
إخلاء المخابئ السرية وتغيير مواقع العمل
أفادت المصادر لـ"الشرق الأوسط" بأن الحوثيين قرروا فوراً إخلاء عدد من المباني التي كانت تُستخدم كمراكز اختباء سريّة أو غرف عمليات في جنوب صنعاء، خشية من تكرار الاستهداف. وتشير المعلومات إلى أن هذه المباني، غالبًا ما تكون ممتلكات لشخصيات معارضة سابقة، تم الاستيلاء عليها بعد الانقلاب على الحكومة الشرعية عام 2014، وقد جرى استخدامها بشكل دوري لتسيير الشؤون الحكومية بعيداً عن الأنظار.
كما طلب الحوثيون من أسر القيادات البارزة عدم استخدام الطوابق العلوية في منازلهم، والاكتفاء بالأدوار الأرضية، في إطار إجراءات وقائية ضد ضربات جوية محتملة. وفي خطوة استباقية أخرى، أمرت الجماعة بإغلاق بعض المدارس والكليات الخاصة في جنوب صنعاء قبل منتصف النهار، ومنع التجمعات الطلابية، خشية أن تُستغل هذه الأماكن كأغراض محتملة للقصف.
فشل ذريع في كشف مصدر الاختراق
رغم حملة الاعتقالات الواسعة التي شنّتها الأجهزة الأمنية الحوثية في أعقاب الغارة، والتي طالت عشرات من الموظفين المدنيين والعسكريين، بالإضافة إلى موظفين يعملون لدى الأمم المتحدة وسكاناً من المناطق المجاورة لموقع الاستهداف، إلا أن الجماعة لم تتمكن حتى الآن من كشف أي معلومات مؤكدة حول كيفية تمكن إسرائيل من رصد الاجتماع الدقيق.
وتُظهر هذه الحالة من العجز الأمني تصدعاً كبيراً في الشبكة الأمنية التي ظلت الجماعة تتباهى بها على مدى أكثر من عقد، مشيرة إلى أن الثقة بالقدرة على السيطرة الكاملة على المعلومات قد تهافتت في لحظة واحدة.
وبحسب مصادر أمنية يمنية، فإن المراجعة الأمنية الحالية تتضمن العودة إلى استخدام المباني العامة ذات الكثافة السكانية العالية، مثل مبنى الهيئة العامة للطيران المدني، ووزارة النفط، وبعض المباني التابعة للبعثات الدبلوماسية المغلقة، والمرافق المرتبطة بالمستشفيات، وحتى الفنادق. ويأتي هذا الاختيار متعمداً، إذ يُعتقد أن هذه المواقع أقل عرضة للضربات الجوية نظراً لوجود مدنيين فيها، مما يجعل استهدافها أمراً معقداً من الناحية الأخلاقية والسياسية.
حملة اعتقالات وتكتم مريب
ويُنظر إلى استمرار حملة الاعتقالات وامتناع الحوثيين عن الإعلان عن الحالة الصحية للوزراء المصابين، باعتبارهما مؤشرات على حجم الصدمة التي تعرضوا لها، وربما محاولة لإخفاء تفاصيل داخلية قد تعزز فكرة وجود "اختراق استخباراتي داخلي". كما يُلاحظ أن الجماعة تتجنب تماماً الحديث عن الهجوم الإسرائيلي علناً، ما يعكس حرجاً سياسياً وأمنياً كبيراً.
وخلال السنوات الماضية، ظلت الجماعة تروّج لنفسها باعتبارها "كتلة صلبة" لا يمكن اختراقها، وتُبرز قبضتها الأمنية المشددة على السكان، واستخدامها القوة المفرطة ضد أي انتقاد أو تذمر من سوء الأوضاع الاقتصادية والإنسانية. لكن الضربة الإسرائيلية الأخيرة، التي جاءت بتوقيت دقيق وبدقة عالية، أثارت تساؤلات جوهرية حول ثغرات خطيرة في البنية الأمنية والاستخباراتية للجماعة.
اتهامات لمسؤول لوجستي رفيع: طه الصنعاني في دائرة الضوء
أحد أبرز المحاور التي تركز عليها التحقيقات الحوثية هو طه الصنعاني (المعروف أيضاً باسم طه السفياني)، المسؤول اللوجستي الرفيع في هيكل الحكومة الحوثية، والذي يحمل الاسم الحركي "أبو راغب". ويشغل الصنعاني منصباً محورياً كحلقة وصل مباشرة بين الوزراء وكبار القيادات، وهو المسؤول عن تنظيم الاجتماعات، وترتيب أماكن انعقادها، وتأمين وسائل التنقل والتواصل.
ووفق مصادر يمنية، فقد كان الصنعاني حاضراً في الاجتماع المستهدف، لكنه غادره قبل دقائق من وقوع الغارة، ما وضعه في دائرة الشبهات. وقد تم اعتقاله واستجوابه من قبل الأجهزة الأمنية الحوثية، في خطوة تُعد نادرة بحق شخصية مقربة جداً من صناع القرار.
وفي تصريح لـ"الشرق الأوسط"، قال الباحث اليمني محمد الباشا، المقيم في الولايات المتحدة، إن "احتمالية تجنيد الصنعاني مباشرةً من قبل الموساد أو أي جهة استخباراتية إسرائيلية تبدو ضعيفة"، مشيراً إلى أن الرجل "موالٍ للحوثيين منذ سنوات طويلة، وليس عضواً جديداً أو مشكوكاً في ولائه".
لكن الباشا أشار إلى أن "الفرضية الأكثر ترجيحاً هي أن المخابرات الإسرائيلية راقبت اتصالاته الهاتفية، أو تسللت إلى شبكات الاتصال الداخلية، أو استخدمت تقنيات تجسس متقدمة لمتابعة تحركاته وتحديد توقيت ومكان الاجتماع". وأضاف: "الصنعاني، بحكم موقعه، كان بمثابة 'عقدة وصل' حيوية، وبالتالي كان هدفاً استخباراتياً طبيعياً".
تأثير استراتيجي ونفسي عميق
ويرى مراقبون أن الضربة الإسرائيلية، سواء كانت نتيجة عمل استخباراتي مباشر أو مراقبة دقيقة، تمثل ضربة نفسية ومعنوية كبيرة للحوثيين، لا تقل أهمية عن أضرارها المادية. فهي ليست مجرد عملية اغتيال، بل رسالة واضحة بقدرة أجهزة استخبارات أجنبية على الوصول إلى قلب النظام الحاكم في صنعاء، حتى في أكثر لحظات انغلاقه.
وقد تدفع هذه الحادثة الجماعة إلى إعادة هيكلة كاملة لشبكات الاتصال والحركة، وربما إلى تقليل الاعتماد على التقنيات الحديثة، والعودة إلى وسائل تواصل تقليدية وأكثر أماناً، مثل الوسائط الورقية أو اللقاءات السرية في مواقع غير ثابتة.
مستقبل لا يستبعد المزيد من الضربات
وتشير التقديرات إلى أن الحوثيين يتوقعون مزيداً من الضربات الإسرائيلية، خاصة في ظل تصاعد التوتر في المنطقة، وارتباط الجماعة الوثيق بإيران، ودورها في دعم الهجمات على الملاحة الدولية في البحر الأحمر. وبحسب المصادر، فإن القيادة الحوثية بدأت بالفعل في تفكيك هيكلها الحكومي إلى خلايا صغيرة، وتوزيع المهام بين مواقع متعددة، بهدف تقليل الخسائر في حال تكرار مثل هذه العمليات.
وفي الوقت الذي ترفض فيه إسرائيل تبني الهجوم رسمياً، فإن التفاصيل الدقيقة للعملية، وتوقيتها الدقيق، تشير إلى مستوى عالٍ من التخطيط والمعرفة العميقة بالداخل الحوثي، ما يفتح الباب أمام تكهنات واسعة حول وجود شبكة استخبارات داخلية، أو تعاون غير معلن مع جهات محلية أو دولية.
ما حدث في صنعاء قد يكون بداية لانهيار "أسطورة المناعة الأمنية" التي بنتها الجماعة على مدى سنوات. فالضربة الإسرائيلية لم تقتل فقط قادة سياسيين، بل وجهت صفعة مدوية لثقة الجماعة بنفسها، وفضحت هشاشة بنيتها الأمنية في مواجهة قوى استخباراتية متقدمة. والأهم أنها أثبتت أن لا حصانة حتى في قلب المعاقل المحصنة، طالما أن هناك من يستطيع أن يراقب، ويستمع، ويُحدد اللحظة المناسبة للضرب.