المشهد اليمني

عن الشرير الذي تحول إلى ملاك!

الجمعة 12 سبتمبر 2025 09:21 صـ 20 ربيع أول 1447 هـ
عن الشرير الذي تحول إلى ملاك!

فوجئت بمدير المدرسة يجذبني بقوة إلى الفصل بعد كنا نرتشف الشاي في الظل بجوار المدرسة.!

قلت مستغربا:

_ إيش حصل يا أستاذ؟!

أشار من نافذة الفصل إلى رجل مسن متقلدا سلاحه وهو يتلفت حوله، وجهه يكاد يشتعل من شدة الغضب.!

وبطش بي الفضول فسألته:

_ من هذا يا أستاذ؟

_ المدبر.

_ المدبر؟!

وأندفع يروي لي قصة غريبة لم تكن تخطر ببالي.!

_ هذا عبد اللطيف راشد وقد جنى هذا العام الكثير من العسل البلدي، وعشرات البراميل من الذرة، كما تكاثرت حيواناته بشكل غريب.!

قاطعته:

_ يعني الرجل مرتاح فلماذا يغضب وتخاف منه؟!

_ هي هذه المشكلة. فعندما يجني الكثير من العسل والذرة وتكثر أمواله يفتعل المشاكل مع أي شخص وبدون أي سبب، ثم يطلق النار عليه ثم يذهب ويعالجه.

بعدها يدفع أمواله للشيخ وأهالي الجريح وللعسكر وللمسؤولين ولا تهدأ الحالة الجنونية التي تنتابه الا بعد أن يبيع آخر علبة عسل وآخر قدح ذرة وآخر خروف.!

_ هذا مجنون رسمي.!

_ هو مجنون فقط عندما تكون لديه أموال فهو لا يعرف أين يذهب بها؟ فليس لديه أولاد ولا أقارب الا زوجته العجوز المغلوبة على أمرها.

_ وعندما تنتهي أمواله؟!

_ عندما يستنزفونه حتى آخر ريال يصبح أعقل من لقمان الحكيم.!

_ عجييييب.!

في اليوم الثاني وأثناء حصة الجغرافيا فوجئت بعبداللطيف راشد يقتحم الفصل وهو متقلدا سلاحه ويده على الزناد ويسألني بدون مقدمات:

_ ما هذا الذي تدرسه للأطفال؟!

سقط قلبي من الخوف وجف ريقي وثقلت لساني فهذا المجنون يكاد يطلق الرصاص علي.!

ثم تماسكت وأجبته:

_ جغرافيا يا عم عبداللطيف.

ثم قلت للطلاب:

_ قيام كلكم احتراما لعين أعيان المنطقة الشيخ عبداللطيف راشد.

وقف الطلاب فرأيت الابتسامة تملأ وجهه.

فأمرتهم بالجلوس وأسرعت وقدمت له الكرسي ليجلس.

لم أدعه يتكلم فقد رفعت صوتي وقلت:

_ يا طلاب سأسألكم أسئلة والذي سيجيب سيعطيه الشيخ عبداللطيف رئيس مجلس الآباء جائزة.

وغمره السرور والحماس فقام هو يسألهم:

_ ما هي عاصمة مصر؟

_ القاهرة.

صح شاطر صفقوا له.

ودوى التصفيق الحار في المدرسة.

_ ما هي أركان الإسلام؟

_ وأندفع طالب آخر يجيب:

صح شاطر. ودوى التصفيق من جديد.

بعد عشرة أسئلة وجهها للطلاب. سألتهم بدوري:

_ من هو رئيس مجلس الآباء القادم؟

فأجابوا:

_ الشيخ عبداللطيف راشد.

فصرخت:

صح شطار صفق لهم.

وصفق العم عبد اللطيف بحرارة مشجع برشلوني سجل فريقه عدة أهداف في ريال مدريد.

عدل عمامته وهو يبتسم فرحا ثم تقلد سلاحه وأشار إلي بأن أتبعه فتبعته.

همس لي:

_ لابد أن نقدم للطلاب الجوائز لكن النقود التي معي الآن غير كافية.. قاطعته:

_ سأبلغ الطلاب بأنك ستسلم لهم الجوائز غدا.

هز رأسه موافقا ثم قال:

_ وإيش قصة مجلس الآباء؟

_ سأجمع أولياء أمور الطلاب في المدرسة لينتخبوك رئيسا لمجلس الآباء الذي يدير شؤون المدرسة.

_ وهل سأفوز؟!

_ أكيد. ومن هو الذي سيعارضك أو ينافسك؟!

ضحك قائلا:

_ الذي سينافسني بحط الرصاصة بين عيونه ???? ثم رفع سلاحه ليطلق النار فقلت له:

_ لا يا شيخ عبداللطيف الطلاب سيفزعون وأنت الآن رجل مسؤول وقدوة للناس.

أنزل سلاحه وأمنه وهو يهز رأسه وقد سره كلامي.

قلت له:

_ اليوم الغداء عندنا بالمدرسة فأنت الآن المسؤول الأول في المنطقة على هذه المدرسة الكبيرة.

وحينها غمرته فرحة طفل يتيم نال صندوقا من الألعاب فجأة فقال:

_ خلاص أنا بروح أشتري القات وأجيب لنا خروف وعلبة عسل على الغداء وأرجع.

_ منتظر لك يا شيخ.

وأنطلق عبد اللطيف راشد مسرعا فيما عدت إلى الفصل.

لم نكمل الحصة الأخيرة حتى جاء عبداللطيف راشد يحمل حزم القات الفاخر وعلب العسل البلدي ويتبعه أحد الشباب يقود الخروف.

فتحت السكن فقام الشاب بذبح الخروف وجهزنا الغداء وتغدينا.

جهزت للشيخ عبداللطيف مدكأ بارز برأس الغرفة فجلس عليه شامخا ثم وزع علينا حزم القات.

وبقينا نناقش معه أمور المدرسة والمنطقة ونحن نكتم ضحكة تكاد تنفجر منا.

قبيل المغرب همست له:

_ أنا سأدلك على مشروع يجعلك يا شيخ الرجل الأول في المنطقة ونعلق صورة كبيرة لك فوق المشروع ونسميه باسمك.

_ قل يا أستاذ أنا تحت أمرك.

_ مشروع ملعب رياضي كبير للشباب بجوار المدرسة.

_ موافق نبدأ فيه من بكرة.

ستأتي أنت بالشيول ونجهز الملعب، وبعدها نجهز الأعمدة والشباك ثم نفرشه بالحصى الناعم ونبدأ دوري الشيخ عبداللطيف راشد.

أشرق وجهه بفرحة غامرة وهو يقول:

_ أنا ما كنتش عايش يا أستاذ، أنت أعدت لي شبابي وحبي للحياة.

_ يا شيخ عبداللطيف الناس هنا ما يعرفوا قدرك. أنت إنسان كبير وخسارة على هذي البلاد لكن الآن بعد أن تظهر مشاريعك ونعمل لك صورة كبيرة جدا فوق الملعب سيعرفون قدرك.

عدل عمامته وفتل شواربه وقال:

_ أنا بين هؤلاء الهمج قد كنت مت ولكنك الآن بعثتني من جديد.

وحين تنفس صباح اليوم الثاني وارتفعت خيوط الدخان من منازل القرية أقبل بالفطور الفاخر وعليه السمن والعسل البلدي والقهوة المحلاة بالعسل.

وفي الحصة الأولى وزع جوائز نقدية سخية على الطلاب.

ثم غاب ساعة وجاء بالشاي والكعك. ثم غاب ساعة وجاء بحزمة قات طرية قائلا:

_ فذح يا أستاذ.

ثم غاب ساعة وجاءني إلى الفصل بصينية مرق فيها قطعة من اللحم.

لقد تحول الرجل المجنون إلى حمل وديع وصار رهن إشارتي.!

وبدأنا بمشروع الملعب ونفذناه خلال أيام.

رفعنا له صورة كبيرة على الملعب فكاد يجن من الفرحة.

ثم نفذنا مشروع مياه لكل البيوت، أشترينا مولد كهرباء كبير وأوصلنا الكهرباء لكل المنازل.

لم انس ذات صباح ونحن نتناول الفطور بالعسل والسمن حين قلت له شاكرا:

_ يا شيخ عبداللطيف أنت إنسان كبير ورجل عظيم غمرتنا بكرمك.

وفوجئت به يجهش بالبكاء وهو:

_ أنا طول عمري ما سمعت من أحد كلمة طيبة الا منك.

ربت على كتفه وأكدت له أن الجيل الجديد سيعرف قدره فلا يحزن.

وعلى آخر العام أقمنا حفلا كبيرا وشكرنا العم عبد اللطيف راشد رئيس مجلس الآباء ورئيس المجلس المحلي القادم، بعدها قام الشيخ ومدير المدرسة وأنا بتقديم درع العطاء تكريما للشيخ عبداللطيف راشد الذي صعد إلى المنصة وتسلم الدرع وهو لا يكاد يصدق نفسه من الفرح.

غادرت المنطقة في الإجازة الصيفية إلى قريتي ومعي العديد من علب العسل والسمن هدايا من الشيخ عبداللطيف.

ومضت العطلة الصيفية سريعا لأعود إلى المدرسة حيث فوجئت بخبر وفاة عبداللطيف راشد فحزنت عليه حزنا لا يعلمه إلا الله، ثم زرت قبره وترحمت عليه، لكن المفاجأة الأكبر والتي لم تكن تخطر لي ببال أنه أوصى بكل ما يملك لي وكتب في نص الوصية:

_ أوصي بكل ما أملك للأستاذ محمد مصطفى العمراني فهو الوحيد الذي سمعت منه كلمة طيبة.!