كيف يحافظ الأتراك على هوياتهم..؟

عندما تعيش في المهجر وتراقب الجاليات المختلفة عن قرب ، تكتشف أن كل جالية تحمل معها طريقة خاصة في فهم الهوية وحمايتها أو التخلي عنها.
أكثر ما يلفت انتباهي دائما هو الفرق الشاسع بين الجالية التركية والجاليات العربية ، وخصوصا المغاربية منها من المغرب والجزائر وتونس. هذا الفرق لا يظهر في التفاصيل الصغيرة فقط، بل يشمل اللغة، المساجد ، أسلوب إدارة المؤسسات ، وحتى مظاهر الاحتفال في الشارع.
في البيت التركي ، اللغة الأم ليست اختيارا ثانويا ، بل قاعدة ثابتة يلتزم بها الجميع. الأب والأم يصران على الحديث مع أطفالهما بالتركية مهما كانت لغة البلد المضيف ، فيكبر الطفل وهو يتحدث التركية بطلاقة، يقرأ ويكتب بلغته بسهولة، ويذهب إلى مدارس تركية خاصة تعزز ارتباطه بثقافته وتاريخه.
الدولة بدورها تدعم هذا التوجه عبر مؤسسات مثل ديانت ومعاهد يونس إمره، لتبقى اللغة حية في الجيل الجديد.
أما في البيوت العربية فالمشهد مختلف تماما . كثير من العائلات تفضل الحديث مع أطفالها بلغة البلد المضيف منذ اليوم الأول، معتقدة أن ذلك سيعجّل اندماجهم ويحسّن مستواهم الدراسي. النتيجة أن الجيل الجديد ينشأ ضعيف الصلة بالعربية، وبعضه لا يستطيع أن يكوّن جملة سليمة.
وكأن العربي ، بمجرد وصوله إلى المطار ، يعتبر أن الخطوة الأولى نحو "التقدم" هي التخلي عن لغته وهويته، وكأنها عبء يريد التخلص منه.
المساجد التركية تعطي انطباعا مختلفا تماما . نظيفة، مرتبة، منظمة، وفيها أنشطة تعليمية منتظمة للصغار والكبار، ولجان إدارية واضحة، وشفافية عالية في إدارة شؤونها المالية.
عند جمع التبرعات ، تجد الأمر موثقا ومنظما ، الفواتير والتقارير تُعرض على المصلين ، وأحيانا شاشات إلكترونية تعرض الإيرادات والمصروفات أمام الجميع. هذه الشفافية تبني الثقة وتشجع الناس على دعم المشاريع بلا تردد.
في المقابل ، كثير من المساجد التي تديرها الجالية العربية تعاني من نقص واضح في الشفافية والتنظيم. طرق جمع التبرعات غالبا بدائية وتبعث على الشك ، ويتحدث كثيرون أن الأموال لا تصل دائمًا إلى وجهتها.
غياب الوضوح هذا يخلق فجوة بين القائمين على المسجد والمصلين ، ويضعف الدعم المالي ويقلل من فاعلية الأنشطة.
وما حدث مؤخرا في ستراسبورج دليل على هشاشة وضع المؤسسات العربية في أوروبا ، حيث أُغلقت إحدى أكبر الجمعيات العربية التي تضم مدرسة ومسجدا وكانت تُعد الأكبر في المقاطعة وربما الأهم في تعليم اللغة العربية والدروس الدينية.
لم تُعلن أسباب واضحة للإغلاق حتى اللحظة ، لكن كثيرا من المراقبين ربطوا الأمر بالصعوبات المالية والإدارية التي تواجه هذه المؤسسات. هذا الحدث يطرح سؤالا جديا عن قدرة الجاليات العربية على حماية مؤسساتها وضمان استمراريتها.
في المناسبات والفعاليات القومية أو الدينية، تجد الحضور التركي مدهشا ومثيرا للإعجاب. الأعلام التركية ترفرف على السيارات والشرفات ، الأغاني الوطنية تدوي، والرقصات الشعبية والفلكلور التركي يملآن الشوارع وكأنك في قلب إسطنبول لا في مدينة أوروبية. هناك شعور جماعي بالانتماء واعتزاز واضح بالهوية يظهر في كل التفاصيل.
في المقابل ، نادرا ما يظهر العربي بهذا الحضور الجماعي أو يرفع علم بلده في مناسبة عامة، وكثير منهم يفضلون الابتعاد أو الاكتفاء بالمشاهدة بصمت ، وكأنهم مترددون في التعبير عن انتمائهم أو يفضلون إذابته في هوية البلد المضيف.
ما يثير الإعجاب في الجالية التركية ليس فقط النظام، بل أيضا روح التعاطف والعمل الجماعي. إذا مرض أحدهم أو احتاج إلى مساعدة ، تجد الجميع يلتفون حوله ، يزورونه ، يجمعون التبرعات له بدون ضجيج ، ويقفون بجانبه.
الفعاليات الاجتماعية تجمع الصغار والكبار وتربطهم بلغتهم وثقافتهم ، وكأنهم نقلوا قراهم ومدنهم الصغيرة إلى قلب أوروبا.
أما الجالية العربية، فتعاني من حالة شتات حقيقية؛ الجمعيات متفرقة وأحيانا متنازعة فيما بينها، والمساجد في كثير من الأحيان تدار بشكل شخصي أو عائلي دون رؤية واضحة، والعلاقات الاجتماعية بين العرب تتأثر بالخلافات السياسية والمذهبية وحتى القبلية التي جلبوها معهم من أوطانهم، فتضعف قدرتهم على بناء مجتمع متماسك في المهجر.
الفرق بين الجالية التركية والعربية ليس صدفة، بل نتيجة وعي وتنظيم ورؤية واضحة للهوية. الأتراك ينظرون إلى لغتهم ومساجدهم وفعالياتهم بوصفها مشاريع حياة يجب الحفاظ عليها وتطويرها ، بينما كثير من الجاليات العربية تبدو وكأنها فقدت البوصلة.