إعادة تعريف التوازن الإقليمي بعد حرب غزة

روّجت إسرائيل لنفسها كقوة لا تُقهر لكنها اضطرت للعودة إلى طاولة التفاوض لإنهاء حربها في غزة ، كانت تسعى لاحداث معادلة في توازن القوى الاقليمي يمنحها تفوق مطلق فإذا بحليفتها الوحيدة امريكا تستعين بوسطاء من المنطقة لإنهاء حربها مع فصيل مسلح ، لتكشف بذلك عن حدود قوتها العسكرية وعن فشلها في تحويل التفوق إلى حسم أو الهيمنة إلى استقرار .
ولعل أكثر ما يكشف محدودية القوة الإسرائيلية هو أن الثمن الإنساني الذي دفعته غزة لم يتحول إلى نصر سياسي لإسرائيل بل إلى عبء أخلاقي متزايد يقوّض صورتها في العالم ، فالمجازر التي ارتُكبت بحق المدنيين والأطفال والمشاهد التي وثّقتها المنظمات الدولية لم تُضعف شرعية حماس بقدر ما أضعفت مكانة إسرائيل الأخلاقية، ودفعت قطاعات واسعة من الرأي العام الغربي إلى إعادة النظر في الخطاب الإسرائيلي التقليدي الذي يبرر العنف باسم “الأمن القومي”. وبهذا المعنى فإن فائض القوة تحوّل إلى عبء استراتيجي لا ميزة ردعية لأن العالم لم يعد يقيس النصر فقط بالسيطرة الميدانية بل بالقدرة على المحافظة على الشرعية الإنسانية والقانونية .
إن القراءة الدقيقة لما جرى تؤكد أن إسرائيل رغم قدرتها التدميرية الهائلة فشلت في تحقيق هدفها الأساسي المتمثل في إعادة هندسة المشهد الفلسطيني وفق إرادتها المنفردة . فهي لم تُنهِ وجود حماس ولم تستعيد الأسرى والمفقودين بالقوة ولم تضمن أمن مستوطنيها على نحو مستدام . والأسوأ من ذلك أن الحرب كشفت هشاشة البنية الداخلية للدولة العبرية حيث وفق استطلاعات الرأي تعمّقت الانقسامات السياسية وتآكلت ثقة الجمهور بقياداته السياسية والعسكرية والأمنية ، ما أعاد إلى الواجهة أزمة المشروع الصهيوني ذاته في قدرته على البقاء ككيان طبيعي في محيط رافض لهيمنته .
وعليه: فإن من الخطأ النظر إلى ما جرى في غزة كفصل عسكري منتهي أو كهزيمة مطلقة ، بل ينبغي قراءته بوصفه محطة فاصلة في توازن القوة الإقليمي كشفت أن إسرائيل لم تعد قادرة على فرض إرادتها المطلقة وأن فاعليتها باتت مشروطة بالأخذ في الاعتبار وجود القوى الإقليمية والعربية الكبرى . فالحرب التي خاضتها لإثبات أنها مركز الثقل الإقليمي انتهت بإظهار محدوديتها البنيوية وبأن القوة العسكرية مهما بلغت لا يمكنها أن تصنع شرعية دائمة أو توازنًا مستقراً في منطقة تعيد تشكيل نفسها سياسيًا واستراتيجيًا خارج معادلات التفوق التقليدي .
* من حساب الكاتب على منصة إكس