المشهد اليمني

اقتصاد الفوضى من يربح من استمرار الحرب في اليمن ؟

الثلاثاء 7 أكتوبر 2025 12:49 صـ 15 ربيع آخر 1447 هـ
عبدالجبار سلمان
عبدالجبار سلمان

في اليمن، لم تعد الحرب مجرّد صراع بين أطراف سياسية تتنافس على الشرعية أو الأرض، بل أصبحت منظومة معقّدة تمتزج فيها المصالح الاقتصادية بالسلطة السياسية، وتختلط فيها شعارات النضال بمصالح الحرب وأرباحها. لقد تحوّل النزاع إلى حالة مستدامة من “اقتصاد الفوضى”، حيث لم يعد البندقية وحدها من تمنح السيطرة، بل القدرة على تحصيل الإيرادات، والتحكّم في الموانئ، والسيطرة على موارد الناس، وتوزيع الفقر بحسب الولاء. منذ أن انهارت مؤسسات الدولة عام 2014 وسقطت العاصمة صنعاء في أيدي الحوثيين، تغيّر وجه اليمن. الدولة التي كانت هشة أصلًا فقدت ما تبقى من مقوماتها، وبرزت قوى جديدة تملأ الفراغ، تمتلك السلاح والعقيدة والشبكات المالية. في الشمال، أسس الحوثيون سلطتهم من خلال إعادة تشكيل البنية الإدارية والمالية لمؤسسات الدولة، حتى باتت الإيرادات العامة تُجمع بأيديهم وتُدار خارج أي رقابة حكومية أو برلمانية. الجمارك، الضرائب، الزكاة، وحتى المساعدات الإنسانية أصبحت موارد مستقلة تُموّل بها حربهم وتغذي بها شبكات الولاء داخل جهازهم السياسي والعسكري. تحت غطاء الحرب، نشأ نظام اقتصادي موازٍ يديره أمراء حرب وتجار نفوذ، يستفيدون من غياب الدولة ومن استمرار الصراع. ميناء الحديدة، على سبيل المثال، تحوّل إلى أحد أهم شرايين الاقتصاد غير الرسمي، تُفرض فيه رسوم وجبايات تفوق ما كانت تجبيه الدولة في أوج قوتها. النقاط الأمنية والعسكرية المنتشرة على الطرقات تحولت إلى محطات تحصيل أموال، تُدفع فيها الرسوم مقابل المرور أو نقل البضائع. ومع سيطرة الحوثيين على واردات الوقود، برزت سوق سوداء عملاقة أصبحت أحد مصادر التمويل الرئيسية، حيث تُباع المشتقات النفطية بأسعار مضاعفة تُثري القادة والمقرّبين بينما يعاني الناس من انعدام الكهرباء والمواصلات وارتفاع الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة. في الجنوب، لم يكن الوضع مختلفًا كثيرًا، وإن اختلفت الأسماء والرايات. فالمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات أنشأ نموذجًا مشابهًا للسلطة المحلية المستقلة، يدير موانئ ويشرف على قوات أمنية وعسكرية خاصة، ويجمع الإيرادات من الجمارك والضرائب في المناطق الخاضعة لسيطرته. بعض المحافظات الجنوبية باتت تتعامل مع المانحين والمنظمات الدولية ككيانات مستقلة، الأمر الذي عمّق الشرخ بين الشمال والجنوب وجعل فكرة “اليمن الموحد” تتراجع أمام واقع الانقسام العملي. أما الحكومة المعترف بها دوليًا، فقد وجدت نفسها تائهة بين العواصم، عاجزة عن فرض نفوذها على الأرض، بينما تتآكل سلطتها أمام تعدد القوى المحلية التي باتت تمتلك ما لا تمتلكه القوة، التمويل، والولاء. ومع انقسام البنك المركزي بين صنعاء وعدن، أصبحت العملة نفسها ساحة صراع. الريال اليمني بات له أكثر من سعر وأكثر من قيمة، بينما يعيش المواطن العادي حالة من الانهاك الاقتصادي، تتبدّل فيها الأسعار كل يوم، ويصبح الوصول إلى الغذاء والدواء تحديًا يوميًا. الحرب التي دمّرت البنية التحتية لم تُنهك الجميع بالتساوي؛ فقد خلقت فئة من المنتفعين الذين ازدهرت ثرواتهم وسط الركام. ازدهرت أنشطة التهريب عبر البحر والحدود البرية، من الوقود والسلاح إلى المواد الغذائية والمساعدات الإنسانية. تقارير عديدة تشير إلى أن المساعدات، التي كانت تُرسل لإنقاذ الجياع، أصبحت تُباع في الأسواق المحلية بأسعار مرتفعة، أو تُستخدم كورقة ضغط سياسي على السكان. بعض أمراء الحرب تحولوا إلى رجال أعمال يملكون شبكات تجارية داخل وخارج البلاد، بينما تآكلت الطبقة الوسطى وتضخّمت معدلات الفقر والبطالة. في الوقت نفسه، حاولت الميليشيات أن تبني لنفسها شرعية بديلة من خلال تقديم بعض الخدمات وإظهار نفسها كسلطة “منظمة”. فتراها تُقيم محاكم محلية وتفرض قوانين جديدة وتنفذ مشاريع بسيطة للبنية التحتية لتبدو كدولة قادرة على الإدارة. لكنها في الواقع تستخدم هذه الأدوات لترسيخ هيمنتها وتعزيز السيطرة على المجتمع. التعليم والإعلام تحولا إلى أدوات لتشكيل الوعي، تُزرع من خلالهما الأفكار العقائدية، وتُكرَّس ثقافة الطاعة والانتماء المطلق للجماعة. المشهد اليمني اليوم أقرب إلى لوحة فسيفسائية من سلطات صغيرة، كل منها تدير شؤونها وفق مصالحها الخاصة، وتتعامل مع الخارج بمعزل عن الدولة المركزية. ومع الوقت، أصبح هذا الانقسام بنية ثابتة وليست مجرد حالة مؤقتة. الدولة لم تعد غائبة فقط، بل أُعيد تعريفها بالكامل. السلطة لم تعد تمارس من قصر الرئاسة أو مجلس الوزراء، بل من مقرات الميليشيات، ومن شبكات مالية تتحكم في السوق والمساعدات. إن أخطر ما أنتجته هذه الحرب هو تحويلها العنف إلى مصدر للشرعية، والفوضى إلى اقتصاد مستدام. فقد أصبح استمرار النزاع شرطًا لبقاء هذه القوى، لأن السلام يعني خسارة مواردها ومواقع نفوذها. ولذا فإن من مصلحة الكثير من هذه الأطراف إبقاء الحرب مشتعلة، ولو بحدها الأدنى، لتستمر دورة الأرباح والنفوذ. وفي المقابل، يجد المواطن نفسه ضحية معادلة لا يملك فيها سوى الصبر أو النزوح، فيما تزداد الفجوة بين من يملكون كل شيء ومن لا يملكون حتى الأمل. العقوبات الدولية ومحاولات المجتمع الدولي للضغط على الأطراف المسلحة لم تغيّر كثيرًا في الواقع. فالميليشيات طوّرت قدرة عالية على المناورة، واستخدمت الاقتصاد الداخلي لتمويل نفسها بعيدًا عن الدعم الخارجي، حتى أصبحت شبه مكتفية ذاتيًا من عائدات الضرائب والسوق السوداء. في المقابل، تتراجع قدرة الحكومة على دفع الرواتب أو الحفاظ على استقرار العملة، لتُترك البلاد في حالة من التآكل البطيء، حيث ينهض أمراء الحرب على أنقاض الدولة ويملأون كل فراغ تتركه مؤسساتها. اليمن اليوم لا يعيش فقط انقسامًا جغرافيًا بين شمال وجنوب، بل يعيش تشظيًا اقتصاديًا واجتماعيًا وأخلاقيًا. فقد تغيّر مفهوم الولاء والانتماء، ولم يعد المواطن يثق في أي سلطة، بل يسعى فقط للبقاء. في ظل هذا الانهيار، تنشأ أجيال جديدة لا تعرف الدولة إلا كشعار، وتتعامل مع الحرب كحقيقة يومية، ومع الميليشيا كجهة تمنح الأمن والخبز. هذا التحوّل في الوعي الجمعي ربما يكون أخطر من الدمار المادي نفسه، لأنه يُعيد تشكيل اليمن من الداخل، ويصنع واقعًا يصعب تجاوزه حتى بعد توقف القتال. وإذا لم يُكسر هذا النموذج من اقتصاد الحرب، فإن مستقبل اليمن مرهون باستمرار دوامة من الفوضى المنظمة، يُعاد فيها إنتاج السلطة عبر المال والسلاح، ويُدفن فيها حلم الدولة الحديثة كل يوم تحت ركام مصالح متشابكة. فالفراغ الذي خلّفته الدولة لم يُملأ بإصلاح أو استقرار، بل بميليشيات حولت الخراب إلى فرصة، والفقر إلى سلطة، واليأس إلى مشروع حكم طويل الأمد.