أفكار.. صناعة الثقافة!

في بواكير فجر ثقافتنا الإسلامية الأول كانت الثقافة حالة فردية، تلقائية، كلٌّ يبدع من ذاته، ولذاته، ولعلّ أوّلَ مؤسسة ثقافية "رسميّة"، صانعة للثقافة في الإسلام هي "بيت الحكمة" التي طورها الخليفة العباسي المأمون في بغداد عن مكتبة والده الخليفة هارون الرشيد. كانت هذه "المؤسسة" مكتبة علميّة، ومركزًا للترجمة، ودارًا للبحث، وقاعة للمناظراتِ والجدل، ومرصدًا للفلك والنجوم، ومختبرًا للطب والصيدلة، ورَواقا للوراقين؛ أي أكاديمية علميّة وثقافية متكاملة، وإن شئت قل: الأكاديمية العلمية والثقافية الأولى على مستوى العالم آنذاك، ضمّت بين جنباتها يهودًا ونصارى ومسلمين ومجوسًا وغيرهم، بأجورهم وأرزاقهم المُعينة من بيت المال.
ومن هنا بدأت صناعة الثقافة، ومن هنا ــ على ما يبدو ــ استوحى العالمُ اللغوي الكبير أبو هلال العسكري، في القرن الرابع الهجري اسم كتابه: "الصّناعتين"، ويقصد بهما: صناعة النثر وصناعة الشعر، والكتاب من أهم ما جادت به قريحة البلاغيين العرب، كما اعتبر ابن خلدون ت. 808هـ أنّ العلومَ بمختلف فنونها من جملة الصّنائع..!
وتساوقت العمليّة الثقافية بعد ذلك في مختلف العواصم والأقاليم الإسلامية التي شكلت منظومة حضارية إسلامية متكاملة، حتى بدأت في التآكل والتلاشي، عقب ذبول الحضارة العربية الإسلامية، وبروز نمط ثقافي جديد، فرضه رجالُ الدين، إلى حد أن أصبح الاشتغال بالكيمياء والفيزياء والفلسفة جريمة تفصلُ الرأس عن الجسد، بفعل سطوة لاهوت المؤسسة الدينية التقليدية التي ظلت شبه متماسكة بعد سقوط الإمبراطورية العربية الإسلامية.
في القرنِ العشرين، ومع بروز الدولة الحديثة، القائمة على أساس: الشعب، الأرض، النظام السياسي، وظهور أعتى ثلاث أيديولوجيّات عالميّة: اليسار، اليمين، القوميين، كان من الطبيعي أن تنتحيَ الثقافة منحىً جديدًا متساوقًا مع هذه الأيديولوجيّات التي أخذت طابعًا عقائديا عند أتباعها، فكانت الثقافة تبعًا للسياسة في أغلب مظاهرها؛ حيث تناسلت الكتب والمجلات والملاحق الأدبية والثقافية، إلى حد تسييْسِ النظريات العلمية البحتة، "نظريات فرويد" في الفلسفة وعلم النفس، عدا ما خلقته المؤسسات الأكاديمية البحتة التي تأسست خلال هذا القرن.
خلقت هذه المتناقضات ثقافة وثقافة مضادة لدى الشارع العربي الذي فشل في بناء دولته العصرية والحديثة، كما فعلت النخبة الثقافية الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية تحديدا، وذلك بسبب الثقافة/ الثقافات المتنافرة لدى الجيل الواحد في الشعب الواحد، ونحن وإن كنا مع التعدد والتنوع الخلاق؛ لكننا ضد التضاد والتنافر الهدام.
اليوم صارت هذه الأيديولوجيات في خبر كان، وإن بقيت بعض شظاياها وعظامها الميتة؛ وبدأ الشباب الإصلاحي الجديد ينادي بالانتقال: من مربع الأيديولوجيات إلى مربع البرامج، بعد قرنٍ كامل من صراع طواحين الهواء وبيع الوهم، عجز خلاله عن إثبات ذاته؛ لا؛ بل عجز عن معرفة استخدام تقنية العصر التي برع فيها غيره، في أسوأ عملية ارتكاس ثقافي، وجودي، ما كان ينبغي له أن يكون.
خلاصة القول:
آنَ الانتقالُ من عمليّة المثاقفة الفردية، والمثاقفة الأيديولوجيّة إلى التثاقف الجمعي، إلى صناعة الثقافة، واعتبارها ركيزة من ركائز البناء؛ ذلك أنّ الدول المتقدمة التي تحترم نفسها أدركت أنّ صناعة مواطنيها "ثقافيا" لا يقل أهمية عن صناعته تعليميا، وعسكريا، وأمنيا، واقتصاديا، حتى يكونَ مواطنا عصريا صالحًا، مساهمًا في بناء ذاته الحضارية، خاصة مع ظهور "الفواعل المنفعلة" من الجماعات المنفلتة العابرة للقارات، المرتبطة بأجندات مشبوهة، والتي تستقطب الشباب، لتقديمهم قرابين في مشاريع الخراب والدمار.
نقلا عن صحيفة الثورة