المشهد اليمني

التاريخ بين قانون التدافع وحركة الحقوق

الخميس 23 أكتوبر 2025 12:54 مـ 2 جمادى أول 1447 هـ
التاريخ بين قانون التدافع وحركة الحقوق

عندما تجوب الأساطيل العسكرية للقوى العظمى العالمية البحار والمحيطات، وتنشر القوى الدولية قواعدها العسكرية في دول مختلفة حول العالم، وفيما يحاول حلف الناتو التوسع شرقاً، وتحاول روسيا استعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي، وتعيد ألمانيا صياغة عقيدتها العسكرية، وتبني الصين قوة عسكرية ضخمة، وتسعى الهند للتمدد في اتجاهات مختلفة، عندما تقوم القوى الدولية بكل ذلك فإن الميزان يترجح لصالح القوة، على حساب القانون، أو لنقل إن قانون التدافع الطبيعي هو الذي يشكل الخريطة، بعيداً عن حركة الحقوق والحريات.

وعندما اندفع المستعمر الأوروبي نحو الشرق والأمريكيتين لم يكن مدفوعاً بأدبيات الثورة الفرنسية، ولا بمعاهدات جنيف وفيينا اللاحقة، بل كان هنالك الإنسان بكل طموحاته ونزواته وغرائزه، يبحث عن مصالحه، ويعمل على توسيع موارده، وبسط سلطانه ونفوذه.

أما القضية الفلسطينية فهي ـ وفق أدبيات الحقوق والحريات – يجب أن تحل عن طريق إقامة دولة فلسطينية، وهي استحقاق متضمن في كل القوانين والمقررات الدولية. لكن الحاصل اليوم – ومع وصول تيارات اليمين إلى السلطة في إسرائيل وبعض البلدان الغربية – أن الدولة الفلسطينية لم يعد لها وجود في الخطاب السياسي، إلا من قبيل أحاديث المجاملات، ناهيك عن أن تكون هناك خطوات جادة لإنجاز تلك الدولة، بل إن بعض السياسات، وهذا هو الأخطر، تسعى لسن تشريعات جديدة تراعي الأمر الواقع في فلسطين التاريخية، الوضع الذي يُرى معه استحالة قيام دولة فلسطينية، بعد أن التهمت إسرائيل أراضي الضفة، ودمرت غزة، في خطوة هدفها الأساسي إجهاض مشروع الدولة الفلسطينية، وهو ما يشجع قوى اليمين المساند لإسرائيل، لاستصدار قوانين وقرارات تشرعن للأمر الواقع، على أساس أن الواقع هو الحق، وأن القوة هي القانون، حيث لا تكون كلمة الفصل في القضية الفلسطينية لقوة القانون، بل لقانون القوة، لأن الأقوياء دأبوا على أخذ ما يريدون، بقانون القوة، إذا لم تسعفهم قوة القانون.

كل ما ذكر من أمثلة وشواهد يُفسر على أساس أنه في الصراعات الاستراتيجية أو الحضارية لا تحضر «حركة الحقوق والحريات»، ولا يتم الحديث عن مصطلحات تضمنتها معاهدات واتفاقيات دولية، من مثل «سيادة الدولة الوطنية واستقلال الشعوب»، ولا يتحرك التاريخ وفق اتفاقيات جنيف لحقوق الإنسان، ولا يتم الحديث عن القوانين الدولية، بل يتحرك التاريخ، وفق قانون آخر، غير القانون الدولي، وغير القوانين الناظمة للحقوق والحريات، يتحرك التاريخ من خلال قانون «التدافع»، الذي يعد المحرك الأساس لتلك الحركة التي يفسرها فقهاء التاريخ وعلماء الاجتماع على أساس من هذا القانون.

ووفقاً لقانون التدافع يمكن كذلك تفسير انطلاق حركة الفتوح الإسلامية. إذ أنه وفي القرن السادس الميلادي ولدت في الجزيرة العربية قوة إسلامية جديدة، بين قوتين تقليديتين، ومع هذه القوة الصاعدة تحرك الشعور بالقلق لدى القوى التقليدية في فارس والروم، تماماً، كما كان الشعور ذاته لدى تلك القوة الجديدة. بالنسبة للإمبراطوريتين التقليديتين كانت مشاعر القلق تحوم حول إمكانية منافسة القوة الجديدة لهما، الأمر الذي دفعهما للتفكير في كيفية إعمال «الكوابح التاريخية» لمنع عملية الصعود، وبالنسبة للقوة الجديدة كانت مشاعر القلق تحوم حول إمكانية تعرض القوى التقليدية لصعود تلك القوة، ومن هنا كان الصراع حتمياً، وهو ما كان، حين اندفعت القوى التقليدية تؤلب القبائل المختلفة في «حرب وكالة»، ضد هذه القوة الصاعدة، في محاولة لكبح صعودها، قبل التصادم الحضاري الذي حصل على ضفاف الأنهار في العراق والشام، حيث اندفع العرب المسلمون لمواجهة القوى التقليدية، قبل أن يتسنى لها القضاء على قوتهم الجديدة.

ومع أن الصراع كان حتمياً بين القوة العربية الإسلامية الوليدة حينها في الجزيرة العربية، والقوى التقليدية الإمبراطورية، ومع أن هذا الصراع أتى في سياق «التدافع الحضاري» الطبيعي الذي يُنظِّر له كثير من الفلاسفة وعلماء الاجتماع والمؤرخين، مع كل ذلك إلا أن كثيراً ممن تناولوا التاريخ العربي الإسلامي، وتاريخ الفتوحات – تحديداً – لا يقرؤون هذا التاريخ في سياق قوانين التدافع الطبيعي أو التنافس الحضاري، بل يروق لهم استدعاء معاهدات جنيف وفيينا والعهود والمواثيق الدولية عن حقوق الإنسان، ومفاهيم السيادة والاستقلال، ويحاولون الظهور بمظهر الموضوعية والبحث التاريخي المحايد، فيما هم ينطلقون من منطلقات آيديولوجية أو دينية أو سياسية، مدفوعين بالقلق من القوة الكامنة في الشرق العربي الإسلامي، والخشية من عودة التاريخ في دورة جديدة، لينطلق من تلك الأراضي التي انطلق منها من قبل.

من أجل ذلك لا ينظر لتاريخ الفتوحات العربية الإسلامية من زاوية سنن التدافع، بل تعرض حركة تاريخ تلك الفتوحات على المعايير الحديثة في الحقوق والحريات، وهي معايير ـ ويا للمفارقة ـ كانت إفرازاً لأبشع معارك التاريخ البشري على الإطلاق، في الحرب العالمية الثانية. والهدف من مقاربة التاريخ العربي الإسلامي على أساس مبادئ الحقوق والحريات المعاصرة، وليس على أساس سنن التدافع الطبيعي، الهدف من ذلك كما ذكر هو إدانة هذا التاريخ، حيث يراد إظهار الفاتحين المسلمين في مظهر الغزاة الذين سعوا لنهب خيرات الشعوب الأخرى، مع أن «الفتوحات الإسلامية» لم تمس «الحقوق الفردية» في «الملكية الخاصة» وحرية العبادة وغيرها من الحقوق التي كفلها العرب المسلمون الذين قال عنهم غوستاف لوبون: «ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب».

*القدس العربي