تهامة بين التحشيد الزيدي وإعادة تشكيل القوى وإفراغ الهوية وإعادة رسم النفوذ السياسي والعقائدي.
تشهد تهامة منذ فترة تحولات ميدانية وسياسية متسارعة توحي بان المنطقة مقبلة على مرحلة اعادة ترتيب شامل لموازين القوى في توقيت بالغ الحساسية ففي الوقت الذي تصعد فيه جماعة الحوثي من عمليات التحشيد على خطوط التماس تتزامن على الارض تحركات اخرى تستهدف البنية المحلية في الساحل التهامي من خلال تفكيك الالوية التهامية و الغاء مسمى المقاومة التهامية وتذويبها ضمن تشكيلات لا تمت بصلة للهوية التهامية او للانتماء الجغرافي للارض.
وهذا التوازي بين تحركات الحوثي من شمال الشمال ومحاولات اعادة التشكيل في الساحل التهامي من الداخل لا يمكن اعتباره صدفة بل يبدو انه جزء من مسار منظم يسعى الى تفريغ المنطقة من عناصرها المحلية التي تحمل ولاء خالصا للارض واستبدالها بقوى يمكن توجيهها او التحكم في قرارها ضمن سياق اوسع لاعادة توزيع النفوذ في اليمن ضمن اجندات عابرة للحدود.
وتهامة ليست مجرد شريط ساحلي بل رمز لهوية ضاربة الجذور ومصدر لروح المقاومة اليمنية الاصيلة في وجه المشاريع الطائفية الوافدة ولذلك فان محو مسمى المقاومة التهامية لا يمثل مجرد تعديل شكلي في التسمية او الهيكلة بل هو محاولة ممنهجة لكسر رمزية الانتماء المحلي و اضعاف الارادة الجمعية لابناء المنطقة الذين شكلوا منذ البداية صمام الامان امام اي تمدد عقائدي او سياسي غريب عن بيئتهم.
التحركات التي تستهدف اعادة صياغة المشهد في تهامة لا تبدو معزولة عن سياقها التاريخي اذ ترتبط ببعض القوى التي كانت جزءا من النظام السابق الزيدي ذلك النظام الذي سمح للمشروع الايراني بالتغلغل في اليمن وانتاج نفسه تحت غطاء وطني فقد شهدت تلك المرحلة تداخلا بين السياسي والعقائدي وافسح المجال امام التيار الزيدي ان يتحرك ضمن اجندة تتقاطع في جوهرها مع مشروع اقليمي يرى في المشروع العربي خطرا وجوديا يجب الحد منه.
اليوم يتكرر المشهد بادوات مختلفة حيث تعود بعض تلك القوى لتتولى مواقع حساسة في الساحل التهامي في وقت يتزامن فيه التحشيد الحوثي المكثف مع محاولات اعادة تشكيل القوى المحلية هذا التزامن الميداني والسياسي يعيد الى الاذهان تجربة الماضي حين استخدمت المؤسسات الرسمية والعلاقات السياسية لتسهيل تمدد الفكر الايراني داخل بنية الدولة وصولا الى لحظة الانهيار الكامل وسيطرة الجماعة على مفاصل السلطة.
فما يجري الان في تهامة يدار بغطاء تنظيمي وعسكري ظاهره اعادة ترتيب وباطنه محاولة لاعادة هندسة الهوية التهامية في واحدة من اكثر المناطق حساسية في اليمن و احلال تشكيلات وافدة من خارج تهامة مكان القوى المحلية المتجذرة لا يمثل ذلك مجرد تغيير في البنية العسكرية بل يشكل تفكيكا للبنية الاجتماعية والسياسية التي حافظت على ولائها للمشروع العربي منذ انطلاق عاصفة الحزم وتمهيد لفراغ مستقبلي يمكن ان يدار بسهولة من قبل قوى ذات امتداد مذهبي وسياسي يتقاطع مع المصالح الايرانية في المنطقة.
تاريخيا كانت تهامة تمثل خط تماس حيويا امام اي مشروع طائفي او توسعي وتماسك القوى المحلية المنتمية للارض كان دائما سد منيع امام الاختراق و اضعاف تلك القوى او تذويبها ضمن تشكيلات غير منتمية جغرافيا يعني نزع الحصانة الطبيعية التي تمتعت بها المنطقة لعقود فالتحركات الاخيرة سواء بتفكيك الالوية التهامية او باعادة تسمية القوى المحلية تأتي في لحظة تشهد فيها الجبهات هدوئا نسبيا ما يجعل توقيتها اكثر اثارة للتساؤل ويعطيها دلالات سياسية ابعد من ظاهرها العسكري.
فاستهداف الهوية التهامية ليس تقويضا لقوة ميدانية فحسب بل ضربة للروح والعقيدة المحلية في خاصرة اليمن البحرية والاقتصادية فالساحل التهامي يمثل بوابة استراتيجية على البحر الاحمر وباب المندب و افراغه من القوى المحلية ذات الولاء الوطني يعد مخاطرة تمس الامن الاقليمي والدولي على حد سواء وترك هذه الجغرافيا الحساسة خالية من قواها الاصلية يعني تركها مفتوحة امام مشاريع النفوذ الاقليمي وهو ما يشكل تهديدا مباشرا للاستقرار في المنطقة.
من هنا تستلزم الضرورة لاعادة تقييم المشهد من قبل القوى الاقليمية المعنية بالامن العربي وعلى رأسها المملكة العربية السعودية لضمان عدم ترك الساحل التهامي بلا توازن محلي حقيقي فغياب القوى التهامية المتماسكة قد يفتح الباب امام اعادة انتاج النفوذ الزيدي في ثوبه الجديد تحت شعارات ظاهرها وطني وباطنها يخدم اجندة توسعية عابرة للحدود.
فتهامة اليوم تقف عند مفترق طرق تاريخي اما ان تبقى رمزا للمقاومة المتجذرة واما ان تتحول الى مساحة نفوذ يعاد تشكيلها لصالح قوى تحمل ارثا من التحالفات القديمة والمشاريع العقائدية التي تتقاطع مع الخط الايراني والفرق بين الحالتين مرهون بتقيم التحالف العربي لطبيعة ما يجري وبقدرته على اعادة تفعيل التوازن الميداني الذي يحفظ للمنطقة هويتها وللارض ابناءها.
الاحداث المتسارعة في الساحل التهامي ليست معزولة عن سياقها التاريخي بل هي امتداد لمرحلة سابقة استخدمت فيها مؤسسات الدولة كجسر لعبور العقيدة الايراني الى قلب السلطة واليوم يعاد استنساخ الاسلوب ذاته باساليب مغايرة عبر استبدال الولاءات المحلية باخرى اكثر طواعية في خدمة مشروع لا يرى في العروبة الا خصما.
والقراءة الدقيقة للمشهد تكشف ان ما يبدو تنافسا داخليا على النفوذ هو في الحقيقة عملية اعادة تموضع ضمن مخطط اوسع يرمي الى اعادة رسم الجغرافيا السياسية والعقائدية للساحل التهامي ولهذا فان التحرك العاجل لتثبيت الهوية التهامية ودعم القوى المحلية المخلصة للارض ضرورة استراتيجية لا رفها سياسيا فالمعادلة بسيطة وواضحة بقاء تهامة قوية يعني بقاء التوازن في البحر الاحمر و افراغها من قواها المحلية يعني فتح الباب امام مشروع يرى في الضعف المحلي طريقا لتوسيع نفوذه.
