يوميات فتاة من غزة

"والذين يدخلون بئر المعرفة قد ينجحون أو يفشلون ولكنهم يقومون باستغلال أعظم ما يملكه الإنسان: الفكر والعاطفة. والذين يضيعون في بئر المعرفة مثل المنتصرين كلهم أبطال إنهم يعملون لتجميل الحياة وجعلها عميقة وحلوة محتملة ومعقولة"ولأن من حظوظي أنني دخلت بئر المعرفة و ضعت فيها لا فخرا بذلك، وإنما واقع لا يمكن إنكاره؛ فلم أنكر روحي ولم تحتجب ملامحي...و لأنني من ورثة "غض الطرف"،لم أناقش ما حفظه عقلي، عملت بها رضىً بما حدث؛ فصرت أعتل همّ جلب الماء من مسافات بعيدة بالدلاء مشيا على الأقدام، وصرت من المكررين للحديث النبوي لا تسرف في الماء ولو كنت على نهر جار، ولكنني أخفف وطأة هذا الثقل بالقول لإخواني صحة للجسم هذا النشاط وهذه الحركة" إنه تزويق لا أكثر" ؛ طيب وبعدين ؟ أقول لهم يابيي ما أجمل رائحة الخشب فيها عذوبة الطبيعة، واللحن الأول لأصل الإنسان،" حقيقة أراها" بعدما شروه بدراهم ليست معدودة، يا بنت لا تكثري من إكثار وضع "وقيد للنار" اليوم لاقينا بكرة من أين نأتي بهذا الحطب النظيف؟ يا أهلي أنتم لا تعلمون أن إشعال النار بالنسبة لي حفلة صاخبة فيها نغلي ركوة القهوة وإبريق الشاي ونطهو طبيخنا عليه وأسمع فرقعة الحطب أثناء احتراقه، صوت لا أبدله بكل أنواع المعزوفات التي سمعتها في حياتي ثم آخر المطاف تلسعني النار فأقول"قل نار جهنم أشد حرا"، فصرت محترفة في دق النار وجعلها مشتعلة لا تخمد ... فضايل قل هو الله أحد.
جوقة الفرن و الفرّان الذي نخبز عنده، حلقة لا يمكن التغاضي عنها وتطنيشها، فيها ترى ما لا يُرى ، تجلس أمام شاشة عرض أعجوبة في صدقها، سواء كان من جمهرة الناس حول الفرن أو من ما قد ألحظه مما يحدث في الشارع، أجلس وأسمع بثوث الناس، وعيني على شاب وأمه السبعينية وجدا نفسهما في هذه الصنعة بعدما تركوا بلادا وعبادا لهم .. في وجهيهما فقط أرى وجه غزة تلك المدينة التي لا يمكن نسيان "عد على ايدك يا سيدي" شوارعها أزقتها حاراتها بيوتها العتيقة والجديدة حتى شجار أهلها كثيره وقليله، في الخطوط المرسومة على وجه السيدة أم شادي أرى جمال لا يقهره بطش باطش وأعود مثقلة الخطى وكأنما لم أمش قط ..
رحم الله أياما كنت فيها أقرأ روايات إليف شافاق .. سخرت من هبلها الذي تكتبه،لكني رأيت نفسي أتقارب معها، في صحوتي وقصي مناماتي الكثيرة جدا على أختي، أو على بنات خالاتي و مجملها أننا عائدون إلى البيت، والبيت سليم كما تركه، ونظيف جدا كما كنت انظفه تماما، والحارة تزينها شجرة اللبلاب و شجرة ليلة القدر، وفي قرارة نفسي أعرف أنه العقل الباطن لا أكثر؛ بخلاف سيدة في مخيم الشاطئ نعرفها، كانت طوال يومها تنادي على أخواتها المدفونات في بلادنا المحتلة داخل الخط الأخضر، يا صباح تعالي خذيتي على البلد دون ملل أو زهق .. صرت مثلها لكنّ تعبيري صامت، لم تكن إليف وحدها من شاركتني نصوصها فصارت واقعا، أين أنتما يا مها حسن و إنعام كجه كه من ما كتبتما ولم أقرأه مرة واحدة كما تعودت مع كثير من الروايات الحديثة، انتهيت مرة أخرى من الروايات قبل الحرب بأيام قليلة، أنتن لم تكتبن إلا واقعي .. يا درويش كنت الحنين الدائم إلى البلاد فأصبحنا مثلك، فهل طابت ثراك!!! من إليف و مها و إنعام و درويش صرنا عالمين و دوليييين إي ماشا الله ....
كانت فرحتي عارمة بلقاء لقن/طشت غسيل من جيل جدة جدتي، هذا اللقن الذي هو عبارة عن ألمنيوم ثقيل تحكي آثاره كثرة غلي الملابس فيه، في أول أيام لاستخدامي إياه كنت أقول، هو أنا بشو بفرق عن صاحبة اللقن الأصلية؟ هذا الشيء فيه رائحة الأجداد و ماضٍ آتى إلينا دون حسبان.. أجلس أمامه وكأنني من ذاك الزمن؛ زمن أصحابه مجمعون على أنهم أفضل واحسن منا، فهل سأصير مثلهم؟؟
في مراتي القليلة التي أذهب فيها إلى السوق غدوت حجة وخالة و أُنادى أحيانا بـ يمّا، بهيك صرت كبيرة و حكيمة وفهمانة يعني؟؟ ومعها صرت من أهل الخبرة في الأرصاد الجوية فإذا ظهرت النجوم ليلا ليس هناك مطر، و إذا أصبحنا والندى كثير يعني اليوم حار جدا؛ و إذا تفحصت وجه محدثي عرفته من أين في غزة بالتحديد، يا إلهي ما هذا الكرم ..
صادفت شيخا يقترب من الثمانين من عمره ظهيرة أحد الأيام، ودعواه عليّ أنه لن يسامحني إذا صنعت مفتولا ولم أطعمه، لأنه رآني أحمل غربالا، فأقسمت له أني لن أصنع المفتول ولأن من عادتي شكل حجاب الصلاة بيدي، فرآني حافية القدمين وسؤاله ويده تشير على قدمي /هيك يصير فينا ؟؟ فكان جوابي ما حدا " من غير شر موجود من اخواني كان لبست شبشبه" فعللت له أنه من المفيد ملامسة القدم للرمل والتراب قرأت مقالة تفيد بذلك، ألستُ بذلك جعلت الحياة حلوة وجميلة ومعقولة ومحتملة!!!!
*أديبة وناقدة أدبية من غزة