من ‘‘الطليعة’’ إلى ‘‘الإصلاح’’: قصة الحركة الإسلامية في اليمن بعين ناقدة وروح منصفة

في لحظة استماع متأملة لحلقة "اليمن بودكاست" التي استضافت الكاتب والصحفي سعيد ثابت سعيد، شعرت كأنني لا أستمع إلى سرد سياسي تقليدي، بل إلى شهادة تاريخية متأنية تصافح الذاكرة اليمنية من زوايا طالما غيبتها الاستقطابات.
فلقد كان حديث سعيد ثابت متحررا من خطابات الكراهية، متجاوزا مرارات الماضي ومترفعا عن أيديولوجيات الانتقام، فبدا وكأنه يعيد رسم المشهد السياسي اليمني بخيوط العقل والإنصاف.
في حديثه عن الحركة الإسلامية اليمنية، لم يقدم سعيد خطابا تبريريا ولا تبنيا كاملا، بل أقرب إلى "سيرة نقدية داخلية" تتقصى الجذور وتتبع المسارات. فيما كانت البداية مع "الطليعة العربية الإسلامية"، حركة طلابية تشكلت في خمسينيات القرن العشرين، ضمت في طياتها تنوعا فكريا ومناطقيا، متأثرة بالمد القومي العروبي والإسلامي في آن.
فيما كان ذلك زمن تشكل الوعي السياسي المقاوم، إذ التقت عدن بتعز وصنعاء، والتقليد بالتحديث، والوجدان الديني بالثورة الاجتماعية.
غير أن سعيد، وعلى خلاف كثير من الكتاب، لم يقفز على تحولات الواقع اليمني. بل أشار بوضوح إلى أن نشأة "التجمع اليمني للإصلاح" بعد الوحدة اليمنية 1990، لم تكن قفزة أيديولوجية بل تفاعلا مع تغيرات الدولة، فالكيان السياسي الموحد استدعى تنظيما أكثر اتساقا مع مرحلة التعددية السياسية.
ومع أن الإصلاح ولد من رحم الإخوان، إلا أن تركيبته القبلية، والعلاقات المتشابكة مع السلطة، خصوصا مع الرئيس السابق علي عبد الله صالح، منحته هوية مركبة لا يمكن اختزالها بخطاب دعوي فقط.
كما أن اللافت في طرح سعيد أنه لم ينس إنصاف من أُهملوا ظلما. فنجده يحيي دور الرئيس إبراهيم الحمدي في تأسيس المعاهد العلمية، بوصفها فتحا تعليميا أنقذ البلاد من ارتهان فكري كان سيجعل اليمن رهينة لنخبة مذهبية ذات طابع سلالي للابد .
كما أنصف جمال عبد الناصر رغم ما عاناه الإسلاميون من حملات قمعية في عهده، مقدرا موقفه الداعم لثورة اليمن ضد الإمامة. وفي سرده لأسماء كعمر طرموم، وعبده محمد المخلافي، والشيخ محمد سالم البيحاني، استحضر تجربة إسلامية يمنية كانت ذات بعد وطني وإنساني، لا دعوي فقط، والاخير درس في معهده اليساريون والقوميون، ومنهم ابي نفسه.
وهكذا..من الثورة ضد الاحتلال البريطاني في جنوب اليمن، إلى مواجهة الإمامة في الشمال، ثم الشراكة السياسية في اللقاء المشترك، وأخيرا الدخول في دوامة الثورة والانقلاب والحرب، تبدو الحركة الإسلامية اليمنية وكأنها كانت دوما على موعد مع تحولات كبرى.
لكن سعيد ثابت، بعين الباحث لا المتعاطف، يُظهر أن هذه الحركة كانت اصلا من نسيج أكبر، وأن صعودها لا يُفهم إلا في سياق انهيارات النخب الأخرى: من يسار تأدلج بشمولية فخسر الجماهير، إلى سلطة تقلبت على الجميع حتى احترقت بجمرها.
والحق يقال إن الحلقة لم تكن مجرد تحليل لحركة الإسلاميين، بل كانت درسا في الإنصاف السياسي. نعم، قد نختلف مع بعض توجهاتهم، كما أختلف أنا كاشتراكي تربى على نقد الإسلام السياسي، لكننا لا نملك إلا أن نقدر النزاهة حين نراها، والعقلانية حين تحكم. وربما، فقط ربما، يكون أمثال سعيد ثابت ما يحتاجه اليمن اليوم: عقل لا يؤله أحدا، وضمير لا يشطب أحدا.
هذا التاريخ إذا، ليس للتقريع، بل للفهم. والفهم هو أول الطريق نحو وطن يحتمل أبناءه مهما اختلفوا، شرط أن يجتمعوا على ألا يختلفوا على الوطن.
على أنني أولا وأخيرا استمتعت كاشتراكي لحلقة اليمن بودكاست مع سعيد ثابت متجاوزا ذاتي السياسية أمام سعة العقل وسكينة الوعي. ذلك أن لكل كيان سياسي يمني أخطائه.
وعموما تحية خاصة للمحاور الذي أدار الحلقة بحرفية وهدوء، أفسح المجال للرؤية العميقة أن تتنفس، وتحية أكبر للأستاذ سعيد ثابت سعيد، الذي منحنا صوتا وطنيا متزنا في زمن الضجيج.
وُلد سعيد ثابت في مدينة الشيخ عثمان بعدن عام 1965، وانتقل لاحقا إلى تعز بفعل ظروف البلاد. حاصل على بكالوريوس إعلام من جامعة أردنية عام 1990، وله دبلوم عال في الإعلام السياسي.
ومن كتبه البارزة:
الطليعة العربية الإسلامية (1955–1965)
المركز الثقافي الاجتماعي الإسلامي في جنوب اليمن
الإسلاميون في اليمن والدفاع عن الجمهورية
جميعها وقد اطلعت عليها ضمن سلسلة "إضاءات في التاريخ السياسي اليمني المعاصر"، التي دُشنت في معرض اسطنبول للكتاب 2024.
ويبقى الاستاذ سعيد ثابث سعيد كاتبٌ ذو نفس تاريخي دقيق، وصوت توازني نحتاجه.
بل نحتاجه جدا، خصوصا ونحن في زمن تمزقت فيه السرديات وتاهت البوصلات، ليأتي صوت مثل سعيد ثابت فيذكرنا أن الاعتدال ليس ضعفا، بل شجاعة معرفية.
وأن الإنصاف للتاريخ والناس هو أول خطوة نحو وطن يستحق اليمنيون أن ينتموا إليه.