سلطان المشهد الأول في عقولنا

الانطباع الأوّل… ذلك الضيف الخفي الذي يزورنا في صمت، ويترك بصمته في أعماق عقولنا دون استئذان. هو أشبه برسّام ماهر، يخطّ صورة أولى في أذهاننا عن الأشخاص والأشياء والمواقف، ثم يتركنا نتعامل مع تلك الصورة كأنها الحقيقة المطلقة، وإن كانت في الواقع مجرّد ظلال لمشهد عابر.
216.73.216.175
الطفل والانطباع الأوّل:
يولد الإنسان صفحة بيضاء، على الفطرة كما جاء في الحديث الشريف: «كل مولود يولد على الفطرة». ومنذ اللحظة الأولى لولادته، يبدأ في استقبال العالم بعينيه وأذنيه وحواسه كلّها، وكل ما يراه أو يسمعه أو يلمسه يكون جديداً عليه.في هذه المرحلة الحسّاسة، يبدأ مركز الذاكرة بتخزين المشاهد والانطباعات. فإذا ضحك من موقف ما، سيتذكره كشيء مبهج، وإذا بكى من مشهد آخر، سيثبته في عقله كمصدر حزن أو خوف.
خذ مثلاً: إن خاف الطفل من كلب في أول لقاء له مع هذا الحيوان، فالغالب أن كل الكلاب ستصبح في نظره مخيفة، حتى وإن كان بعضها أليفاً ووديعاً. وعلى العكس، إن شاهد ثعباناً في مشهد لعب ومرح، قد يكوّن صورة إيجابية عن الثعابين، رغم ما قد تحمله من خطر في الواقع.هنا ندرك أن الطفل لا يتحمّل وزر سوء الاستخدام أو سوء التوجيه، بل هو ضحية انطباعات أولى ترسّخت في ذاكرته.الفن وصناعة الانطباعوليس الأمر مقتصراً على الطفولة، بل يمتد إلى وعينا كبالغين.كم من ممثل أو فنان شاهدناه أول مرة في دور شرير في فيلم أو مسلسل، فخلّدته ذاكرتنا على أنه إنسان سيّئ، حتى وإن لعب لاحقاً دور البطل النبيل. والعكس صحيح؛ إذا شاهدناه أول مرة في دور البطولة والشجاعة، فسيظلّ في أذهاننا بطلاً، حتى وإن جسّد شخصيات سلبية فيما بعد.
علاقاتنا مع الآخرين:
الأمر ذاته يحدث في حياتنا اليومية.قد تلتقي شخصاً لأول مرة فتراه في موقف غير لائق أو تصرف سلبي، فينطبع في ذهنك أنه شخص سيّئ، حتى وإن كنت تجهل قصته وظروفه في تلك اللحظة. وربما تقابل آخر يبدو في أول وهلة خلوقاً ومهذباً، بينما تخفي ابتسامته قناعاً من الأخلاق المزيّفة.وهنا يبرز السؤال الجوهري:
_ هل نحمل أنفسنا مسؤولية التحقق قبل أن نصدر الأحكام؟
_؛هل نروّض ذواتنا على التمسّك بأخلاق رفيعة، ونغرسها في تعاملاتنا حتى لا نخدع الآخرين بمظاهر زائفة؟
أم نكتفي بإلقاء اللوم على غيرنا إذا خُدع بانطباع أوّل لم نقصد إظهاره؟
الانطباع مع الجمادات والمنتجات:
وليس البشر وحدهم من يخضعون لسلطان الانطباع الأوّل، بل حتى الأشياء والمنتجات والعادات.فكم من سيارة اشتهرت في محيطك، فتجد الناس يقبلون على شرائها فقط لأنها راسخت في أذهانهم كخيار موثوق، رغم وجود سيارات أخرى أفضل أداءً وأحدث تقنيات. وكم من شخص يصرّ على نوع معين من الملابس أو المطاعم أو العلامات التجارية، لمجرد أنه جرّبها أول مرة وأحبها، فيرفض تجربة أي بديل.إنها سطوة “المشهد الأوّل” على أذهاننا.كأن عقولنا تقول: “لقد اخترت، ولا حاجة لتغيير رأيي”، حتى لو أثبت الواقع وجود خيارات أرقى وأفضل.البعد النفسي للانطباع الأوّلالأمر، في جوهره، يعود إلى طبيعة نفسية فينا نحن البشر؛ فنحن نميل إلى التمسّك بما نعرفه، ونخشى المجهول.لكن العقل الذي ينغلق على خيار واحد أو فكرة واحدة يصبح كالقفص، يحرم نفسه من ثراء التجارب وتنوّع الاحتمالات.ولهذا لا بد أن ندرب أنفسنا على تقبّل الجديد، وممارسة عملية “غربلة” واعية لكل ما نستقبله، فنحتفظ بما ينفعنا ونترك ما يضرّنا، دون ظلم أحد أو شيء بسبب حكم متسرّع.غسيل الدماغ والانطباع الأوّل.
ولعلّ أخطر ما في الانطباع الأوّل هو أنه قد يصبح أساساً لعملية “غسيل دماغ”.فإذا تمكّن شخص أو جهة من تثبيت فكرة معيّنة في ذهنك في اللقاء الأول، ثم دعمها بمشاهد وأحداث متكرّرة، قد تجد نفسك متمسكاً بها إلى درجة أنك ترفض أي حقيقة تناقضها. وفي بعض الحالات، قد يفضّل الإنسان الموت على التخلّي عن فكرة ترسّخت في وعيه منذ اللحظة الأولى.التحرّر من أسر الانطباعإن الانطباع الأوّل ليس قدراً محتوماً، بل يمكننا التحرّر من سلطانه إذا وعينا طريقة عمله.ينبغي أن نسأل أنفسنا:
_ هل ما رأيناه أو سمعناه لأول مرة يعكس الحقيقة كاملة؟
_ هل هناك جوانب أخرى للقصة لم نطّلع عليها بعد؟
_؛هل من العدل أن نحب أو نكره أو نثق أو نشك بناءً على لحظة واحدة؟
المجتمع اليمني نموذجاً:
إذا ألقينا نظرة على المجتمع اليمني، سنجد أن الانطباع الأوّل يلعب دوراً كبيراً في كثير من القرارات، حتى في أبسط الأشياء كاختيار المنتجات الغذائية أو الصناعية.ورغم تغيّر العالم وظهور منتجات أكثر جودة وتطوراً، يظل بعض الناس متمسكين بما ألفوه أول مرة، وكأنهم وكلاء دفاع عن فكرة أو منتج قديم، لديهم كل الحجج للدفاع عنه، ولو ثبت أن الواقع تجاوزه.الخلاصةلقد خلقنا الله مخيّرين لا مسيّرين، وأعطانا العقول لنفكر ونقارن ونختار.
لكن السؤال الذي ينبغي أن نطرحه على أنفسنا هو:
_هل نريد أن نكون أسرى الانطباع الأوّل، نعيش على أحكام سريعة ومشاهد ناقصة؟
أم نريد أن نكون أحراراً في عقولنا، نمنح أنفسنا فرصة الرؤية الكاملة قبل أن نحكم؟
إن الانطباع الأوّل قد يكون بوابة نحو المعرفة أو فخاً للخطأ، والفرق بين الحالتين هو وعيك أنت، واستعدادك للتروّي، وقبولك لأن ترى الصورة كاملة، لا نصفها الملوّن بالمشهد الأوّل.