الأحد 17 أغسطس 2025 08:38 مـ 23 صفر 1447 هـ
المشهد اليمني
رئيس التحرير عبد الرحمن البيل
Embedded Image
×

حتى لا يتطفل البودكاست على المهنة الصحفية

الأحد 17 أغسطس 2025 03:02 مـ 23 صفر 1447 هـ
حتى لا يتطفل البودكاست على المهنة الصحفية

مضت شهور طويلة وأنا أتابع عدداً من البودكاست اليمنية والعربية والأجنبية ومنها الفرنسية على وجه الخصوص.

216.73.216.175

هناك زيادة ملحوظة في عدد هذه البرامج الإذاعية بسيطة الكلفة وعالية التأثر. وهي تحظى الآن برعاية مالية وإعلامية لأنها النمط الجديد من الوصول إلى الجمهور ومن بلوغ التأثير وأيضا من التنافس على السرديات.

يمنياً، يمكن القول إنها واحدة من أشكال النشاط السياسي العابر للأوطان والنابع من المنفى. بمعنى آخر إنها أداة جديدة لممارسة العمل السياسي العابر للأوطان.

تشكلت لدي تصورات خاطفة ومتراكمة بعضها كتبت عنها وبعضها أجلته. لكن هناك بودكاست متميز واسع الانتشار عربياً هو بودكاست "ثمانية" يقدمه الشاب المتألق عبد الرحمن ابو مالح وسبق ان استضاف يمنيين أو من يتحدثون عن اليمن وكانت اللقاءات في كل مرة مثيرة للانتباه وتخلق ردود افعال بعضها متشنج ويلقى المتحدث غضبا كبير من الجمهور.

وربما جاء لقاء الباحث ضياء السعيدي في هذه البودكاست مناسبة لجمع ما تشكّل لدي من فكرة حول البودكاست كوسيلة في منشور واحد.

وُلد البودكاست في لحظةٍ انتشرت فيها ثقافة "تورم الذات"؛ تلك الثقافة التي تمزج بين الغرور الفارغ وحالة من التمركز حول الذات، مصحوبة بفائض من الثقة غير المؤسسة وإدعاء طافح.

لا أدري إن كانت هناك علاقة سببية واضحة بين

ظاهرة البودكاست وهذه الثقافة، لكن من المؤكد أن كليهما يعززان لدى الفرد أفكارًا تجعله يشعر بأنه "سُرة" الكون، بل وكأن سيرته الذاتية وحكايته الشخصية وأفكاره الخاصة وحتى حماقاته هي كنوز سردية ينبغي أن تُروى ويُستمع إليها باهتمام.

من هذا المنطلق، يبدو أن البودكاست أصبح ببساطة ميكرفونا يُمنح لمن يريد الحديث، ليبدأ في بثّ ما لديه في حوارات قد لا تختلف كثيرًا عن جلسة مقهى أو لقاء عائلي او دردشة مريحة على أريكة بسيطة.

في كثير من الأحيان، يقتصر البودكاست على نوع من السيرة الذاتية؛ حيث يستعرض الضيف تجاربه أو تحولاته أو "رهاناته" الخاصة، وقد يكون لديه بالفعل ما يقوله.

لا أشكك أبدا في وجود قصص ملهمة وحوارات شخصية مع فاعلين ومخضرمين لديهم صورة أخرى من الأحداث والوقائع من الممتع استكشافها.

لكن الإشكال يبدأ حين ينحرف البودكاست ويتحول إلى مساحة تناقش قضايا اجتماعية أو سياسية أو ثقافية أو تاريخية. عندها، لا يمكن لصاحب البودكاست أن يكتفي بلعب دور المستمع أو مدير الحوار السلبي ويتسمر على كرسيه مخدراً فاغر الفم، بل عليه أن يتحمّل مسؤولية المعلومة، وأن يكون ملمًّا ومدققًا وقادرًا على إدارة النقاش بوعي وفهم.

فمجرّد تمرير معلومة خاطئة، حتى لو بسكوت المضيف، يُعد مشاركة في تزييف الوعي.

المعلومة مسؤولية، خاصة في الأنظمة الديمقراطية، حيث تتطلب العدالة الإعلامية أن يُمنح كل طرف من الأطراف المتنافسة وقتًا متساويًا للظهور، مع التأكد من صحة ما يُقا سيما اثناء الحملات الانتخابية

وهنا تظهر أهمية وجود فريق بحث يعمل على التحقق الفوري من الأرقام والبيانات التي يُدلي بها الضيوف – خصوصًا حين يتعلق الأمر بقضايا حساسة مثل البطالة، الهجرة، أو الإنفاق العام.

ففي لحظة واحدة، قد يُقال رقم خاطئ، وإن لم يتم تصحيحه، فقد يسهم ذلك في تضليل الجمهور، وبالتالي التأثير في نتائج الانتخابات والإضرار بجوهر الديمقراطية.

هذا لا يختلف كثيرًا بين الدول المستقرة والديمقراطيات العريقة، وبين الدول التي لا تزال تعاني من هشاشة في مؤسساتها. بل لعل الضرر يكون أكبر في الدول غير المستقرة، حيث تسهم المعلومات المضللة في تعميق الفوضى، وتعزيز البروباغندا والأكاذيب وبلبلة الرأي العام وربما في إطالة أمد الصراعات ومنع الوصول إلى أي نوع من الاستقرار.

البودكاست ليس مجرد ميكروفون وأضواء جذابة وإعداد لقاءات شخصية مريحة. إنه مسؤولية اجتماعية وثقافية، وامتداد لأخلاقيات العمل الإعلامي. ولكي لا يكون البودكاست متطفلًا على مهنة الإعلام، فعلى القائمين عليه أن يكونوا أكثر وعيًا وصراحة، خاصة وأنه وسيلة قادرة على الوصول إلى جمهور واسع ومتنوع.

لكن هذه القدرة يجب أن تُقابل بكفاءة حقيقية في التحقق من المعلومات يتحملها وزرها مقدم موسوعي المعرفة يملك حساسية تجاه الموضوع المطروق او من خلال فرق متخصصة أو مهارات فردية، مع الاستفادة من أن معظم البودكاستات ليست بثًا مباشرًا، بل يمكن التحقق من محتواها قبل النشر. وإلا، فإن الخطأ يقع على عاتق المُضيف، وليس فقط على من يستضيفه.

عربياً، لمن هو مهتم بمتابعة حوارات ثقافية غنية بالمعرفة انصح بمتابعة بودكاست "مجتمع"للدكتور سعد الدين الهلالي.