الإثنين 25 أغسطس 2025 05:20 مـ 2 ربيع أول 1447 هـ
المشهد اليمني
رئيس التحرير عبد الرحمن البيل
Embedded Image
×

التموضع الديناميكي السعودي: من مأسسة القرار إلى الشرعية الجيوسياسية

الإثنين 25 أغسطس 2025 05:43 مـ 2 ربيع أول 1447 هـ
التموضع الديناميكي السعودي: من مأسسة القرار إلى الشرعية الجيوسياسية

‏في عالم تتسارع فيه التحولات الجيوسياسية وتتداخل فيه مسارات القوة، لم تعد الدول الصاعدة تقيس مكانتها بوزنها الاقتصادي أو العسكري فقط، بل بقدرتها على صياغة موقعها داخل شبكة العلاقات الدولية بصورة مرنة وفاعلة. وفي هذا السياق، برزت السعودية كنموذج فريد «للتموضع الديناميكي»، حيث لا تكتفي برد الفعل على المتغيرات، بل تبادر إلى هندستها، مستندة إلى مأسسة القرار الاستراتيجي وتكريس شرعية جيوسياسية تجعل من حضورها عنصرا لازما في معادلة الاستقرار العالمي.

216.73.216.10

‏إذا ما أخذنا (الصين وأمريكا) كنموذج للعلاقات السعودية، نجد أن طبيعة السياسة الخارجية للمملكة تقوم على نموذج التموضع الديناميكي لا الانحياز الجامد، فالسعودية لا تنحاز لقطب ضد آخر، لكنها أيضا لا تقف على الحياد السلبي، بل تمارس حيادا إيجابيا يمنحها حرية الحركة بين القوى الكبرى، مع انخراط نشط في القضايا الدولية بما يحافظ على مصالحها ويعزز قدرتها على التأثير في موازين القوى.

‏فهي تستثمر في علاقتها مع أمريكا، وتفتح علاقات استراتيجية مع الصين، دون أن تقع في فخ الولاء لأي محور. وهذا ناتج لتطبيق مبدأ «السيادة الاستباقية» لا «التبعية الوقائية»، حيث تبني تحالفاتها لا بوصفها تابعا يبحث عن حماية، بل فاعل يعرض منصة استقرار وبناء مصالح مشتركة قائمة على تعدد الفرص وفق مخرجات متعددة لمفهوم القوة الشامل في أبعادها المتعددة، وهو ما ارتكزت عليه رؤية المملكة 2030. ومن هنا يأتي تعدد وتنوع الفرص وفق اختصاص كل دولة وما تقدمه في هذا الصدد.

‏وهذا في مجمله لم يتحقق لولا القدرة على مأسسة القرار الاستراتيجي عبر بنى مؤسسية وتحليلية متقدمة، جعلت القرار الخارجي أكثر اتساقا مع المصالح الوطنية، وأقل خضوعا للتقلبات أو الضغوط. وهذا أدى إلى تحقيق التموضع الاستراتيجي باعتبار المملكة قوة إقليمية مستقلة ذات طموح عالمي، قادرة على التأثير في هندسة الملفات الدولية، لا سيما المتعلقة بالاستقرار، الطاقة، وخرائط النفوذ.

‏مما أعطى المملكة القدرة على مراكمة أوراق القوة بوصفها وسيلة لتعزيز السيادة الوطنية، لا كأدوات استعراض أو استقواء عابر، ما أضفى على العلاقة مع السعودية سواء (الصين وأمريكا) طابعا عقلانيا وفعالا. وبهذا، لم تعد الرؤية السعودية مجرد برنامج تنموي داخلي، بل مشروع إعادة تعريف الوظيفة الجيوسياسية للدولة السعودية داخل النظام العالمي الجديد.

‏وهنا يبرز «العقل الهندسي» السعودي في صياغة العلاقات، فنجد العلاقات مع الشرق (الصين، روسيا) أو الغرب (أمريكا، أوروبا) تخضع إلى عقلية المشاريع الكبرى وفق معادلة: (المصالح + التأثير + المبادرة).

‏وهذا أنتج «القيادة بالثقة» ومن هنا كفاءة العلاقة مع السعودية، إذ تطرح نفسها كدولة موثوقة ومحورية في ضبط التوازنات بين (الشرق والغرب)، وقد أثمرت هذه المعادلة وفق هذا النهج عن تدشين الوساطة في أوكرانيا، الحوار الإيراني السعودي وقد أفضى لعودة العلاقات، ومن الأمثلة البارزة على هذا التموضع الديناميكي، التنسيق السياسي مع الصين، الذي لم يقتصر على المصالح الاقتصادية أو اتفاقيات الطاقة، بل امتد ليشمل صياغة مواقف مشتركة في القضايا الدولية، ودعم مسارات الوساطة والحلول السلمية، بما يعكس تقاطع الرؤية السعودية مع النهج الصيني في تعزيز الاستقرار، واحترام سيادة الدول، ورفض سياسات الإملاء من القوى الكبرى. هذا التنسيق لم يأتِ كتحالف جامد، بل كمسار مرن يخدم المصالح المتبادلة ويعزز من قدرة المملكة على موازنة النفوذ الأمريكي والصيني دون الارتهان لأي منهما، وانطلاق الحوار (الأمريكي - الروسي) في الرياض الذي أسس لما بعده، وهذا يخلق ما يمكن تسميته «الشرعية الجيوسياسية»: أي أن وجودها شريك في الاستقرار يجعلها شريكا في صناعة القرار الدولي بما يحقق كفاءة العلاقات الدولية.

‏وهكذا، يتضح أن التموضع الديناميكي السعودي لم يعد مجرد خيار تكتيكي في إدارة التوازنات، بل تحول إلى نهج استراتيجي يدمج بين مأسسة القرار والسيادة الاستباقية، ويمنح المملكة قدرة على إنتاج الشرعية الجيوسياسية من خلال الفعل، لا الادعاء. هذه الشرعية، القائمة على الثقة والكفاءة، جعلت من السعودية شريكا لا غنى عنه في ضبط إيقاع العلاقات بين الشرق والغرب، وفي هندسة مسارات القضايا الدولية الكبرى. ومع استمرار هذا النهج، تترسخ مكانة المملكة لا كفاعل إقليمي فحسب، بل كأحد الفاعلين المؤثرين في إعادة تشكيل النظام العالمي القادم.

موضوعات متعلقة