الأربعاء 5 نوفمبر 2025 07:03 مـ 15 جمادى أول 1447 هـ
المشهد اليمني
رئيس التحرير عبد الرحمن البيل
Embedded Image
×

تهامة المنسية بين فكر الإمامة وسياسة الإقصاء

الأربعاء 5 نوفمبر 2025 07:58 مـ 15 جمادى أول 1447 هـ
تهامة المنسية بين فكر الإمامة وسياسة الإقصاء

شكّل نظام الإمامة في اليمن أحد أبرز الأنظمة السياسية التي تركت بصمات عميقة على البنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للبلاد. ورغم ما يقدّمه أنصار هذا النظام من تبريرات دينية وتاريخية لشرعية وجوده، فإنّ الواقع التاريخي يكشف عن سياسات تمييز وتهميش ممنهجة مورست ضد مناطق واسعة من اليمن، وعلى رأسها إقليم تهامة. تمثّل تهامة حالة نموذجية لدراسة العلاقة بين السلطة المركزية الإمامية والمناطق التي وُضعت على هامش القرار السياسي والاقتصادي، مما يجعلها مدخلًا مهمًا لفهم طبيعة الدولة الزيدية ونظامها الاجتماعي القائم على الامتيازات الطبقية والمناطقية. نشأ نظام الإمامة في اليمن في نهاية القرن الثالث الهجري القرن التاسع الميلادي مع قدوم الإمام الهادي يحيى بن الحسين إلى صعدة، حيث أسّس الدولة الزيدية التي اتخذت من المرتفعات الشمالية مركزًا سياسيًا ودينيًا لها. اعتمدت الإمامة على الشرعية الدينية المذهبية المستندة إلى نظرية “الخروج بالسيف” واشتراط “النسب الهاشمي” لتولي الحكم، ما جعل السلطة حكرًا على فئة محدودة من الأسر الهاشمية. ورغم تغيّر الأوضاع السياسية على مر القرون، بقيت الإمامة وفية لنموذج الحكم القائم على المركزية الزيدية في مناطق الهضبة، وعلى تهميش الأطراف والمناطق ذات المذاهب أو التكوينات الاجتماعية المختلفة، مثل تهامة وعدن وحضرموت. تستند الإمامة الزيدية إلى تصور ديني للسلطة يقوم على “الإمام العالم العادل الخارج بالسيف”، وهو تصور يمزج بين الدين والسياسة في وحدة واحدة. وقد ساهم هذا المبدأ في ترسيخ نظام النخبة الدينية الوراثية، حيث أُقصيت القبائل والمناطق غير الهاشمية من مراكز القرار. هذا النمط من الحكم خلق تفاوتًا واضحًا في توزيع السلطة والثروة والمعرفة، إذ تمركزت المدارس الدينية والمراكز العلمية في صعدة وصنعاء، بينما أُهملت المناطق الساحلية التي كانت ذات طابع تجاري وزراعي مثل تهامة. كما ساعدت الطبيعة الجغرافية الجبلية للمركز الزيدي في حماية السلطة السياسية من الانتفاضات، بينما بقيت المناطق المنبسطة مثل تهامة مكشوفة ومعرضة للغزو والتبعية.
تهامة التي تمتد من ميدي شمالًا إلى باب المندب جنوبًا، تتميّز بخصوبة أراضيها وتنوّعها السكاني والثقافي. وقد كانت عبر التاريخ بوابة اليمن إلى البحر الأحمر والعالم الإسلامي، ومركزًا للتبادل التجاري والزراعي. إلا أن هذا الموقع الجغرافي المتميز لم يشفع لها في ظل الأنظمة المركزية المتعاقبة، وخاصة في ظل حكم الأئمة. فقد نظر حكام الهضبة الزيدية إلى تهامة نظرة استعلائية واقتصادية نفعية، باعتبارها مصدرًا للموارد لا شريكًا في السلطة. وكان سكان تهامة ذوو الطابع السلمي والمدني في نظر السلطة أقل شأنًا من سكان الجبال ذوي الطابع القبلي والمذهبي الزيدي. مارست الإمامة عدة أشكال من التهميش البنيوي تجاه تهامة. فعلى المستوى السياسي، لم يكن لسكان تهامة تمثيل فعلي في مراكز القرار الإمامي، إذ كان الأئمة يعيّنون ولاةً من خارج المنطقة غالبًا من أبناء صعدة أو صنعاء ومن أبناء الهضبة الزيدية عموماً لإدارة شؤونها وجباية الضرائب، ما عمّق الشعور بالاغتراب السياسي ورسّخ الفجوة بين المركز والهامش. وعلى المستوى الاقتصادي، كانت تهامة من أغنى مناطق اليمن بالزراعة وبالموانئ الحيوية مثل الحديدة واللحية، غير أن عائدات هذه الأنشطة كانت تُحوَّل إلى خزينة الإمام في صنعاء، بينما ظلت المنطقة تعاني من ضعف الخدمات وانعدام البنية التحتية. أما ثقافيًا واجتماعيًا، فقد فُرضت هوية مذهبية زيدية على مناطق الحكم الإمامي، بينما ظل سكان تهامة شافعية المذهب، ما جعلهم عرضة لتصوير نمطي يقلل من شأنهم ويقصيهم من مراكز التعليم الديني والمعرفي. لقد أدّت سياسة التهميش تلك إلى نتائج اجتماعية وسياسية عميقة. تراكم الفقر والحرمان نتيجة غياب التنمية المتوازنة، وضعفت المشاركة السياسية بسبب استمرار المركزية المفرطة في صنعاء وصعدة، كما ترسخت لدى أبناء تهامة مشاعر المظلومية التاريخية والانفصال الثقافي. وأدى التباين المذهبي والمناطقي إلى تكوين طبقات اجتماعية متمايزة، حيث ظل التهاميون يُنظر إليهم كطبقة أدنى في السلم الاجتماعي والسياسي. ومع سقوط الإمامة في ثورة 1962 وقيام النظام الجمهوري، كان يُفترض أن ينتهي عهد التهميش، لكن الواقع أظهر أن الهيمنة المركزية استمرت وإن بأشكال جديدة. فقد انتقل مركز السلطة من “إمام زيدي” إلى “نخب جمهورية” تركزت أيضًا في صنعاء، بينما بقيت تهامة على هامش التنمية والإدارة. وقد أسهمت العوامل التاريخية الموروثة من عهد الإمامة في ترسيخ هذا الوضع؛ إذ ظلت النخب الحاكمة تنظر إلى تهامة نظرة تبعية، واستمرت الفجوة الاقتصادية والثقافية قائمة، ما جعل القضية التهامية تتخذ بعدًا تاريخيًا لا يمكن فهمه بمعزل عن جذور الإمامة وسياستها الإقصائية.
إن دراسة الإمامة وسياسة التهميش في تهامة تكشف أن التهميش لم يكن صدفة جغرافية أو اقتصادية، بل كان نتاجًا لبنية فكرية وسياسية متكاملة جعلت من “المركز الزيدي” محور السلطة والشرعية، ومن الأطراف “مناطق تابعة” تُستغل مواردها دون تمثيل حقيقي. لقد كانت تهامة، بما تملكه من موقع استراتيجي وثروة زراعية وساحلية، قادرة أن تكون أحد أعمدة الاقتصاد اليمني، لولا السياسات الإمامية التي همّشتها وأضعفت هويتها ودورها. وما لم يُعترف بهذا الإرث التاريخي ويتم تصحيحه ضمن مشروع وطني شامل للعدالة والمواطنة المتساوية، فسيبقى التهميش التهامي جرحًا مفتوحًا في الجسد اليمني، يعيد إنتاج نفسه في كل مرحلة سياسية جديدة.