شبحٌ وسيف
تُعَد الأساطير والحكايات من أصول «الفولكلور» أي «ثقافة الشعوب» المؤثرة في حياتهم. توقظ خيالهم بإشارات تحفيزٍ لتغيير أحوال من يلتقط المغزى؛ وفي أثناء الأزمات والحروب تستعاد للإلهام، وكذلك التسلية بما ترسم من صور الصراع، وتُعَبِّر عن التفاؤل بنهايات سعيدة ينتصر فيها الخير والوئام على الشر والخصام.
بين يدينا مرجعان غنيان، أولهما «أساطير من تاريخ اليمن» للمؤرخ حمزة علي لقمان، منها عن «شبح في صنعاء» حيث سكن رجلٌ من القبائل يدعى «المسعودي» منزلاً يتردد في أرجائه صوت غريب لا يُرى مصدره، لكنه سأل عما يريد صاحب الصوت الذي أجاب أنه يريد إخلاء المنزل لأنه منزله ومنزل أجداده منذ زمن بعيد. أبى المسعودي مغادرة المنزل باعتباره ملكاً موروثاً من أبيه. فعمد صاحب الصوت إلى إفزاعه وإقلاقه لكن المسعودي يستعين بالقرآن والأدعية ويفاجأ أن «الشبح» أُعجِب بكلام القرآن والأدعية وأخذ يرددها.
عُرِضت القضية على الإمام يحيى فكتب يأمر الشبح بترك المنزل وكف الإزعاج لساكنيه ومالكيه، لكن الذي لا يعترف بالإمام أصلاً وبالتالي لا يُبالي برسالته استمر في الصخب والإقلاق. إزاء عناد المسعودي خشية العار أمام القبائل -حسب الحكاية- اتفق معه الشبح صاحب الصوت على بقائهما داخل البيت من دون أن يسبب له الإزعاج. مضت الأيام وتوثقت عرى الصداقة بينهما، حد تلبية مطالب المسعودي وتحقيق أماني أهل بيته. عقب اتفاق أتى في أوانه المحتوم.
يا له من شبحٍ طيب ارتضى التعايش مع الناس وخدمتهم، بعد فترة انتقالية قلقة، لم تنتهِ إلى الانفراد!
ثاني المراجع للأديب المناضل علي محمد عبده «حكايات وأساطير يمنية» خرج بها من صدور جدات القرية إلى سطور المطبوعات العربية لما رآها «لا تقل روعةً ولا تختلف مضموناً ومحتوىً إنسانياً عن حكايات وأساطير شعوب أخرى»، منها حكاية «سيف القاتل» عن خياطٍ فقير اسمه حسن سيف، عُرِف بالبلاهة والخوف، قَلّ أن يدخل دكانه زبون... خطر له أن يتسلى بقتل الذباب فأعلن الحرب عليها، واستخدم سيفاً خشبياً يضربها به. يومياً يحصر ضحاياه من قتلى وجرحى وفارين ويعود إلى زوجته متباهياً بما فعل فتستحيل استهانة زوجته به إلى مهابة. طبعاً، لم يخبرها أن ضحاياه ذباب!
قرر إشهار بطولاته، ونقش على جانبي السيف عبارة: «هذا سيفُ حسن سيف، قاتل ألف، آسر ألف، وألف هربوا من وجهه»، يقرأ الناس العبارة فيفرون منه. لمح سلطان المدينة سيفَ حسن سيف وملأه السرور بعد طول الغم مما يعيشه مع أهل المدينة جراء أزمتين: الطاهش... الحيوان الأسطوري المفترس، وتمرد الشيخ «شَوقَع». أيقن السلطان أنه البطل المنقذ، فاستدعاه يكلفه إنهاء الأزمات. تقول الحكاية: برغم خوف حسن، تقبل التكليف. صدفةٌ أهدته الطاهش، حيث امتطاه من دون أن يهتدي إلى أن بغلته افترسها الطاهش تحت الشجرة حيث نام حسن، والتهم غذاءها بما فيه من شعير ونبات مخدر اسمه «مَسكَرة» فتسمر مكانه وصار طوع حسن حتى وصل البيت وربطه دونما إدراك أنه الطاهش... وحينما أخبروه لاحقاً، تساءل فَزِعاً: «لو كان أكلني؟ لو كان أكلني؟!».
سمعةُ حسن سيف بلغت مسامع شَوقَع فرجح إخماد التمرد لا مواجهة جيش السلطان، «سيفُ السلطنةِ طويل» ولو من خشب. تخيلوا المواجهة الكوميدية... جهز الجنود للقائد حسن حصاناً عَجِزَ عن كبح جماحه، وبينما كان يعدو يسابق الريح يغمض صاحبنا عينيه ويصرخ بعلو صوته: «أين شَوقَع؟ أين شَوقَع؟»، قاصداً: «أين سأقع؟»! ظن السامعون أنه باستهانةٍ ينادي المتمرد باسمه مجرداً من صفة «الشيخ»، غير مستوعبين أنه يخشى الوقوعَ من فوق حصانٍ لم يتوقف إلا حين أمسك شَوقَعٌ بلجامه تهيباً من حسن الذي لا يعرفه ونزل يعانقه عرفاناً على إيقاف الحصان، فيما توهم شَوقَع أن العناق بمثابة عفو من السلطان!
بعض الأساطير الطريفة تُحاكي متطلبات الواقع: سيفٌ خشبي، ذَرّةٌ من الجرأة والإقدام، إعلامٌ مؤثر، مع نزرٍ من الحظ والمصادفات وقدرٍ من التخطيط المُحكم يردع المتمرد ويمنع استمرار التمرد.
*الشرق الأوسط













