الإثنين 19 مايو 2025 03:02 مـ 22 ذو القعدة 1446 هـ
المشهد اليمني
رئيس التحرير عبد الرحمن البيل
Embedded Image
×

نساء عدن يكتبن التاريخ: ثورة الكرامة في وجه القمع والخذلان

الإثنين 19 مايو 2025 01:12 مـ 22 ذو القعدة 1446 هـ
عبدالجبار سلمان
عبدالجبار سلمان

في زمن تتعالى فيه أصوات السلاح وتغيب فيه لغة الإنسان، خرجت نساء عدن إلى الشوارع، لا لالتقاط صورة، ولا لاحتلال منصب، بل لانتزاع حقٍّ مسلوب، وصوتٍ مكموم، وكرامة مسحوقة. خرجن وقلوبهن تنبض بالحق، وأرواحهن تتوق إلى حياة لا تقف على هامش البؤس والتجاهل. إن ما شهدته شوارع عدن من حراك نسائي واسع ليس حدثًا عابرًا، بل صرخة مدوية تهز جدران الصمت، وتفتح بابًا كبيرًا للسؤال: هل تكون ثورة النساء هي بداية التحوّل الحقيقي في اليمن ؟ لم تكن النساء الخارجات في عدن مدفوعات بشعارات مستوردة أو أجندات حزبية، بل بدافع الحاجة الماسة، والحق المكفول، والإنصاف الغائب. طالبن بالكهرباء، المياه، التعليم، الصحة… تلك الضروريات البديهية لأي مجتمع، لكنها تحوّلت في عدن إلى أحلام صعبة المنال. خرجن لأن الحياة اليومية تحوّلت إلى معركة مؤلمة من أجل البقاء؛ لأن صراخ الأطفال الجائعين في البيوت لم يعد يُحتمل، ولأن الصمت بات جريمة. خرجت المرأة العدنية لتقول: “نستحق الحياة”، لا بأدوات العنف، بل بأيدي مرفوعة وقلوب مؤمنة، لتعيد تعريف معنى الثورة، ولتكسر حاجز الخوف الذي أرادوا أن يتحوّل إلى جدار أبدي. لقد سئم الناس في عدن، وفي عموم اليمن، من شعارات “الشرعية” التي لم تعد تمثّلهم، ومن “الانتقالي” الذي استعار لغة القضية ليخنق بها الحريات. في كلا الطرفين، لا تُرى سوى نخبة ضيقة مستفيدة، تعيش على أوجاع الشعب، وتتنقّل بين الفنادق والعواصم، بينما يرزح الناس تحت وطأة الفقر، وغلاء المعيشة، وانعدام الأمل. صاح صوت الشارع، وصاح صوت المرأة: لا للانتقالي، لا للشرعية ! هذا الصوت لم يكن تمردًا على الوطن، بل نداء استغاثة من أجل الوطن. هؤلاء النساء لم يخنّ الوطن، بل خذله من يقمعهن. ولم يكن التظاهر عندهن ترفًا سياسيًا، بل خيارًا فرضته الضرورة، بعد أن خذلتهن المؤسسات، وخانتهم النخب، وارتدت الشعارات الوطنية عباءة الاستبداد. فلا الشرعية قدمت الحلول، ولا المجلس الانتقالي كان بديلاً منصفًا. كلاهما تقاسما الفشل، وتحوّلا إلى أدوات لقمع الصوت الشعبي، فكان شعار “لا للانتقالي، لا للشرعية” تعبيرًا عن رفض شامل لطبقة سياسية استهلكت أحلام الناس. إنّ ما يحدث في عدن اليوم ليس مجرد احتجاج نسائي، بل ثورة مجتمعية ناعمة، تقودها نساءٌ خرجن من الصمت إلى الفعل، ومن التبعية إلى القيادة. تحرّكن لا بإيعاز من الخارج، ولا تحت رايات مشبوهة، بل من عمق الواقع، ومن رحم الألم. هنّ لسن عميلات، ولا مرتزقات، ولا صهيونيات كما يحلو للبعض أن يشيطنهن؛ هنّ نساء اليمن، أمهاته، زوجاته، بناته.. خرجن ليقلن: “كفى استغلالًا، كفى قهرًا”. حين يخرج الفقراء والمظلومون إلى الشوارع، لا يفعلون ذلك حبًا في الظهور، ولا بدافع الإثارة السياسية، بل لأن كل الأبواب الأخرى أُغلِقت في وجوههم. التظاهر بالنسبة لهم ليس خيارًا سياسيًا، بل وسيلة للدفاع عن الكرامة والعيش الكريم. وعندما يتحوّل الخبز إلى ترف، والماء إلى غنيمة، والتعليم إلى امتياز، يصبح النزول إلى الشارع فرضًا لا اختيارًا. أما حين يُقابَل هذا الحراك السلمي بالعنف والترهيب، فإن ذلك لا يكشف إلا عن هشاشة السلطة، وزيف الشعارات، واستعداد من في الحكم للتضحية بأي شيء حتى الشعب نفسه حفاظًا على كراسيهم. المفارقة الموجعة أن من يرفع راية “القضية الجنوبية” اليوم يمارس الاستبداد ذاته الذي خرج الشعب ضده قبل سنوات. فمن يُطلق النار على أبناء عدن، ومن يقمع حرائرها، لا يملك حقّ الحديث باسمهم. ومن يدّعي حماية الجنوب لا يعتقل أبناءه لمجرد أنهم نادوا بالعيش بكرامة. كذلك، فإن “الشرعية” اليمنية فقدت قدرتها على الإقناع، لأنها فشلت عبر سنوات من التواطؤ والفساد في تقديم أي نموذج ناجح، أو حتى بصيص أمل. بل تحوّلت إلى مظلة تحمي الفاسدين، وتوزّع المناصب، وتتناسى الشعب. إنّ ما يجري في عدن ليس مجرد احتجاج نسائي، بل لحظة فارقة، قد تتحوّل إلى شرارة تشعل نار التغيير الحقيقي، لا من بوابة الصراع، بل من بوابة الوعي والكرامة. لأن من خرجن اليوم هُنّ أمهات الجرحى، وزوجات العاطلين، وبنات البلاد المنهوبة. هؤلاء النسوة أثبتن أن الشجاعة لا تحتاج إلى سلاح، بل إلى إيمان صادق بالحق، وأن القهر لا يدوم أمام من يطالب بحقه بقلب ينبض بالحياة. لقد قدمن درسًا في الوعي الثوري، ووجّهن صفعة إلى وجوه المستبدين مهما كانت شعاراتهم. ختاماً تحية لحرائر عدن، وهُنّ ينفضن غبار القهر، ويُعلنّ بأصوات واضحة أن زمن الصمت انتهى. تحية لهن، لأنهن لم ينتظرن أحدًا لينقذهن، بل أنقذن أنفسهن وبلادهن من مستنقع الذل. تحية لثورة تقودها النساء، لأن التاريخ أثبت أن حين تقود المرأة معركة الكرامة، فإن النصر ليس بعيدًا.