نسف أكذوبة الزيدية أقرب إلى السنة: دراسة تحليلية تكشف التطابق العقائدي مع الاثنا عشرية”

دراسة تحليلية نقدية تتتبّع الجذر العقدي للزيدية الهادوية، وتقارن نصوصها ومفاهيمها بالمذهب الاثني عشري، لتكشف زيف الادعاء بأنها مذهب معتدل أقرب إلى السنة.
وهي توسيع منهجي لمقال سابق
إعداد: عبدالله إسماعيل
المقدمة:
لطالما تم تقديم الزيدية، خصوصًا في نسختها الهادوية، بوصفها مذهبا وسطيا بين أهل السنة والشيعة، لا يقول بالعصمة المطلقة، ولا ينكر عدالة الصحابة بشكل كامل، ويتبع مذاهب أهل السنة في الفروع الفقهية. لكن هذا الانطباع السائد - والذي شاع منذ القرون الإسلامية الوسطى إلى اليوم - يحتاج إلى تفكيك عميق، لا سيما في ضوء ما تكشفه النصوص الأصلية لمؤسسي الزيدية الهادوية، وعلى رأسهم الإمام يحيى بن الحسين الرسي طباطبا (ت 298هـ)، والأئمة الذين جاؤوا من بعده، إلى جانب المقارنة بالمصادر العقائدية للمذهب الشيعي الاثني عشري.
عند إجراء اختبار عقائدي جاد، يتضح أن الزيدية - في جذورها الهادوية الجارودية - أقرب إلى الشيعة الإمامية الاثني عشرية منها إلى السنة، فالفارق بينهما ليس في الجذر العقدي، بل في طريقة التعبير والمصطلحات، وفي بعض التفريعات السياسية، بينما تشترك المدرستان في منظومة فكرية مغلقة، تؤمن بـ"الحق الإلهي" في الحكم، وبأن الأمة بعد النبي ﷺ قد غدرت بأهل البيت المزعومين، وارتدت، ولن تُفلح إلا بالخضوع للإمام.
ويزداد هذا التطابق وضوحا إذا نظرنا إلى السلوك السياسي للحوثيين اليوم – كامتداد للزيدية الجارودية – ومقارنته بسلوك النظام الخميني في طهران، إذ نجد أن المنطلق العقدي، والعداء للصحابة، وفكرة الحاكم المعصوم، واحتكار الحق في الحكم، كلها مشتركات بصورة مدهشة.
المحور الأول: الإمامة أصل الدين لا فرعه عند الزيدية والاثني عشرية
1.1 في النص الزيدي:
يصرّح يحيى بن الحسين الرسي في كتابه "الأحكام في الحلال والحرام" بأن الإمامة شرط للإيمان، ويستخدم تعبيرات واضحة في إخراج منكرها من دائرة الإسلام:
"ولا يتم للإنسان اسم الإيمان حتى يعتقد بإمامة علي بأيقن الأيقان".
ويتابع في ذات الكتاب: "من أنكر أن يكون علي أولى الناس بمقام رسول الله، فقد رد كتاب الله، وكان عند جميع المسلمين كافرا". (الأحكام، ج1، ص21)
هذه العبارة تُحيلنا إلى مفهوم الردّة الجماعية التي تتبناها الجارودية، وقد صرّح بها الإمام الناصر للحق (ت 304هـ) أيضا في رسالته إلى أهل اليمن، حيث اعتبر أن الأمة قد ارتدت بعد النبي لأنها لم تبايع عليًا.
1.2 في النص الاثني عشري:
يرد في كتاب "أوائل المقالات" للشيخ المفيد (ت 413هـ):
"إن الإمامة أصل من أصول الدين، لا يتم الإيمان إلا بها، ولا يقبل الله إسلام أحد إلا بالإقرار بها".
كما ورد في "الاعتقادات" للشيخ الصدوق (ت 381هـ):
"الاعتقاد في الإمامة أنها من تمام الدين، وأن من أنكر إماما واحدا منهم فهو كمن أنكر جميع الأنبياء".
هذا يعني أن كلا من الهادوية والاثني عشرية تتفقان في أن الإمامة ليست قضية فرعية سياسية، بل ركن من أركان العقيدة، وجزء من الإسلام نفسه، يُكفر من ينكرها، ولو كان من أفضل الناس.
المحور الثاني:
العصمة والقداسة: الإمام فوق النقد، والطاعة له من طاعة الله
من النقاط التي يُروّج لها المدافعون عن الزيدية الهادوية هي زعمهم أن المذهب لا يقول بعصمة الإمام، ما يجعله - ظاهريا - مذهبا معتدلا مقارنة بالاثني عشرية. لكن بالنظر إلى نصوص المؤسسين، تتبدّد هذه الصورة، ويظهر أن الزيدية تبنّت "عصمة عملية" ولو أنكرت اللفظ، فجعلت الإمام في مرتبة مقدسة، لا يُسأل عما يفعل، ولا يجوز لأحد أن يرد عليه أمرًا أو يناقشه.
أولًا: نصوص يحيى بن الحسين الرسي (ت 298هـ)
1.1 - الإمام لا يُعصى في كتابه "الأحكام في الحلال والحرام" يقول الرسي:
"الإمام لا تجوز معصيته، ولا يرد له أمر، لأنه منصوب من قِبَل الله تعالى، قائم مقام رسول الله في الأمة، مفترض الطاعة من الله عز وجل" (الأحكام، ج1، ص 45)
وهذه العبارة - بوضوحها التام - تكاد تكون تطابقا حرفيا لفكرة "ولاية المعصوم".
1.2 - الإمام لا يجهل ولا يظلم
في نفس الكتاب: "ولا يجوز أن يستخلف الإمامُ بعده من يجهل شيئا من أمر الله، لأن الإمام لا يستخلف إلا مثل نفسه، كامل العلم، عظيم الفضل، ظاهر البيان، موصوف بالزهد والورع..." (الأحكام، ج1، ص 60)
وهنا إقرار بأن الإمام يجب أن يكون مكتمل العلم، وهو أحد أركان مفهوم العصمة، بل أكثر من ذلك، لا يجوز عليه الجهل أو النقص، وهو شرط يفوق ما يُشترط حتى في الأنبياء عند بعض الفرق.
1.3 - الإمام لا يُناقش
وفي كتاب "المسائل" المنسوب إلى الرسي، يُسأل عن جواز مراجعة الإمام:
"فإن قيل: أيُراجع الإمام إن خالف رأي بعض العلماء؟ قال: لا يُراجع الإمام لأنه صاحب الحجة، فإن أخطأ فمن الله يُرَد عليه، لا من البشر".
وهذا نص يلغي أي دور للعقل أو النقد أو الشورى، ويجعل الإمام في مستوى فوق الأمة.
ثانيًا: نصوص أئمة آخرين من الزيدية الهادوية
2.1 - الإمام أحمد بن سليمان (ت 566هـ) في "التبيين في أصول الدين" قال:
"الإمام معصوم من الكبائر، محفوظ من الزلل، لأن الله جعله حجة على عباده، والحجة لا تكون إلا كاملة العقل، صحيحة الفهم، سامية الأخلاق، مطهّرة من الخبث والسفاهة".
وهذا نص صريح في العصمة العقدية، بل يتجاوز العصمة من الخطأ إلى تزكية النفس والعقل والأخلاق كشرط للإمامة، بما لا يختلف عن تصور الاثني عشرية.
2.2 - الإمام عبد الله بن حمزة (ت 614هـ) في كتابه "العقد الفريد" قال:
"لا يجوز أن يُنصّب للإمامة إلا من جمع شروط العصمة، لأنها ولاية عامة، فلو جاز عليه الفسق أو الجهل لجاز أن يُضل الناس أو يهلكهم، وحاشا لله أن يستخلف في عباده فاسقًا أو جاهلًا".
وهذا قول صريح لا لبس فيه، لا يحتمل التأويل أو الدفاع؛ فـ"شروط العصمة" شرط في الإمام، ومن لا تتوفر فيه لا يُعَد إماما عندهم.
ثالثًا: مقابلة صريحة مع المذهب الاثني عشري
إذا جمعنا هذه الأقوال الزيدية، ووازنّاها بما في كتب الاثني عشرية مثل:
"الكافي" للكليني: "الأئمة لا يخطئون ولا ينسون، يعلمون ما كان وما سيكون".
و"نهج البلاغة" الذي يزعمون أنه من كلام علي: "سلوني قبل أن تفقدوني، فإني أعلم بطرق السماء من طرق الأرض".
و"الألفين" للحلي: "الإمام لا يجوز عليه الخطأ، ولا يجوز أن يُقدّم عليه أحد في العلم والعصمة".
فسنجد أن الزيدية الهادوية والاثني عشرية يقولون الشيء نفسه جوهريا، ولو اختلفت المصطلحات، فالإمام عند الفريقين:
•لا يُعصى
•لا يُجهل عليه
•لا يُردّ قوله
•لا يستخلف إلا معصومًا
•مفترض الطاعة من الله
•حجة الله في أرضه
المحور الثالث:
الطعن في الصحابة وتكفير الأمة بعد وفاة النبي: من الجارودية إلى الاثني عشرية
إذا كانت مسألة الإمامة والعصمة تمثل الإطار النظري المشترك بين الزيدية الهادوية والاثني عشرية، فإن الموقف من الصحابة – وتحديدا الخلفاء الثلاثة: أبو بكر، عمر، وعثمان – يُعد أوضح تمثيل للتقاطع العملي بين المذهبين، حيث يتهم الطرفان هؤلاء الصحابة بالخيانة، والغدر، والردة السياسية والدينية، بل ويعتبرانهم سبب الانحراف عن "الحق الإلهي في أهل البيت".
أولًا: يحيى بن الحسين الرسي وموقفه من الصحابة
لم يكن الرسي يكتفي بإثبات أحقية علي بالخلافة، بل كان يرى أن الصحابة ارتكبوا جرما عظيما بمبايعتهم لأبي بكر، وكان يحمّلهم مسؤولية الخروج عن نصوص الدين، واتباع الهوى.
في "كتاب الأحكام"، صرّح بوضوح: "خالف أبو بكر رسول الله، وفعل بغير فعله، ووافقه عمر وجميع أصحابه، وأحلوا ما حرّم الله، وتركوا ما أوجب، وشهدوا على أنفسهم بالخطأ والضلالة". (الأحكام، ج1، ص 380)
ولا يُخطئ القارئ هنا ملامح نظرية الردّة الجماعية، حيث لم يتوقف الرسي عند وصف "الخطأ"، بل اعتبر أن هذا الخروج كان ردا على الله ورسوله.
ثانيًا: الجارودية: التكفير الصريح للصحابة
الجارودية – وهي الفرقة التي مثّلت الامتداد العقائدي والسياسي للرسي – اعتبرت أن الصحابة قد كفروا بتركهم النص الإلهي على علي، وصرّحوا بأن الخلافة بعد النبي غُصبت غصبا، وأن الأمة قد ارتدت، ولم يبقَ على الإسلام الحق سوى قلة من أهل البيت وشيعتهم.
يقول عبد الله بن حمزة (ت 614هـ)، وهو من كبار أئمة الزيدية:
"الزيدية على الحقيقة هم الجارودية، ولا نعلم في الأئمة من بعد زيد من ليس بجارودي" (العقد الفريد، ص 112)
ومن أشهر مقولات الجارودية، ما ينسبونه للإمام زيد بن علي نفسه – زورا – حين سأله أصحابه: "ما تقول في أبي بكر وعمر؟" فقال: "سمعتُ منهم ما يُروى عن رسول الله، وأحببتهم… فقيل له: إذن نرفضك. فقال: بل أرفضكم أنتم".وهذا هو ما يُبنى عليه اصطلاح "الرافضة"، لكن الجارودية رفضوا هذه الرواية، واتهموا الخلفاء بالعدوان على الوصية، بل بالنفاق والارتداد، وأسسوا رؤيتهم التاريخية على أن الأمة قد خانت البيعة، وانقلبت على أمر الله.
ثالثًا: الاثني عشرية والتطابق الجذري في التكفير
الاثني عشرية يُصرحون في كتبهم المعتمدة بأن معظم الصحابة ارتدوا بعد النبي ﷺ، ولم يبقَ على الإسلام إلا ثلاثة أو أربعة فقط، أبرزهم سلمان، وأبو ذر، وعمار، والمقداد.
ورد في "الكافي" للكليني (ج8، ص 245): "كان الناس بعد النبي أهل ردة إلا ثلاثة: المقداد، وأبو ذر، وسلمان، ثم لحق بهم عمار".
وفي "شرح أصول الكافي" للمجلسي: "من أنكر إمامة واحد من الأئمة فهو كافر، مرتد، حلال الدم".
ويُعد حديثهم عن خيانة الصحابة وغصبهم الخلافة من الثوابت العقدية التي لا يختلف عليها علماؤهم، بل جعلوها المرتكز الأول لفهم التاريخ بعد النبوة.
رابعًا: تطابق في البنية العقدية
من خلال هذه النصوص، يتضح أن الزيدية الجارودية والاثني عشرية يتفقان على ما يلي:
1.أن الأمة خانت الوصية.
2.أن الصحابة ارتدوا عن الأمر الإلهي.
3.أن الخلافة كانت مغصوبة.
4.أن الحكم لا يصح إلا في "السلالة المختارة".
5.أن الأمة ضالة حتى تعود إلى الإمام.
إن ما يقوله خطباء الحوثي اليوم في صنعاء، وما يُدرس في ملازمهم، ليس إلا إعادة إنتاج لهذا الموروث الزيدي الجارودي نفسه، حيث يتكرر الطعن في الصحابة بشكل مباشر أو مبطن، ويُقدَّم الإمام/السيد كصاحب الحق المطلق، مقابل أمة خانت الله ورسوله، وتحتاج إلى هداية بالقوة.
المحور الرابع: خرافة الغدير وتسييس النصوص
من حديث الموالاة إلى نصّ الإمامة: الرسي والطبرسي على خط واحد
تُعد واقعة "غدير خم" المرتكز النصي الأهم الذي يستند إليه كل من الزيدية الجارودية والاثني عشرية لتأسيس فكرة الولاية الحصرية لعلي بن أبي طالب، وتحويل مفهوم الموالاة إلى نص تفويض إلهي بالحكم. ورغم أن المضمون النبوي للحديث مقبول عند جمهور الأمة بمعناه الأخلاقي والتكريمي، إلا أن الفريقين المذكورين اعتسفوا معناه وحرّفوا دلالته ليكون أساسًا لمنظومة حكم ديني مغلق.
أولًا: تأويل الرسي للغدير وآيات القرآن
1.1 - تأويل آية الولاية: في كتابه "الأحكام"، يفسر يحيى بن الحسين الرسي قوله تعالى: {إِنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} بأنها نزلت في علي وحده، ويقول:
"الذي أعطى خاتمه صدقة وهو راكع، هو علي بن أبي طالب، والآية نزلت فيه، لا يشاركه فيها أحد، وهي نصّ من الله في ولايته" (الأحكام، ج1، ص 16)
ويضيف: "وقد أجمع المفسرون من أهل بيت النبوة أن المراد بالآية هو علي وحده، ومن أنكر ذلك فقد جحد حقه، وخالف النص المنزل".
وهذا التفسير يتجاوز المعنى اللغوي للآية، ويحيلها إلى نص "سياسي شرعي" يُبنى عليه عقد الطاعة الدينية.
1.2 - حديث الغدير:
لم يقتصر الرسي على تأويل الآية، بل اعتبر حديث الغدير: "من كنت مولاه فعلي مولاه"، نصًا قاطعًا على الإمامة، فيقول:
"قال النبي: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا نص لا يُراد به غير الولاية الكبرى، لأنه لو أراد المحبة، لم يجمع الناس في حرّ الهجير، ويأمرهم بالبلاغ، ويقول: اللهم والِ من والاه…" (الأحكام، ج1، ص 18)
إذن فالرسي يرفض أن يكون معنى "مولاه" هو المحبة أو النصرة، ويصمم على أنه نص تفويض بالخلافة، ويُلزم الأمة به.
ثانيًا: التطابق مع الرواية الاثني عشرية
في كتب الاثني عشرية، نجد نفس التأويل الحرفي المتعسف:
2.1 - الطبرسي في "مجمع البيان": "نزلت آية الولاية في علي حين تصدق بخاتمه وهو راكع، ولا خلاف عند أصحابنا أنها كذلك".
ويشرح: "المراد بـ{وليكم} هو المتصرف بأموركم بعد الله ورسوله، والإمام المنصوص عليه، لا مجرد الولاية العامة أو المحبة".
2.2 - المفيد في "الإرشاد":
"حديث الغدير هو النص الواضح من النبي على إمامة علي، لا يحتاج إلى تأويل، وقد بلّغه كما أُمر من الله".
كما يُورد الكليني في "الكافي" روايات في زعمهم بأن النبي صلى الله عليه وآله عيّن عليا بالخلافة في الغدير صراحة، وأن الأمة أنكرت النص، فاستحقّت غضب الله.
ثالثًا: الآليات المتشابهة في بناء السلطة من النص
نقطة التشابه الأولى:
كلا المذهبين يؤمن بأن الغدير هو "البيعة الشرعية الكبرى" لعلي بن أبي طالب، التي خانتها الأمة بعد وفاة النبي.
الثانية: كلاهما يرفضان فكرة الشورى أو اختيار الأمة للخليفة، ويعتبران النص (القرآني والحديثي) كافيا لنزع الشرعية عن الخلفاء الراشدين.
الثالثة: يتم تضخيم واقعة الغدير من حدث عابر له طابع معنوي، إلى لحظة تأسيس إلهي لدولة الإمام، يُكفّر من ينكرها.
وهذا التأويل لا علاقة له بالنصوص ذاتها، بل بحاجتهم لشرعنة سلطة السلالة، لذلك نجد الحوثيين اليوم يحتفلون بيوم الغدير باعتباره "عيد الولاية"، ويقيمون له طقوسا تكرّس الخضوع للإمام السلالي، لا حب علي بن أبي طالب.
رابعًا: "الغدير" عند الحوثيين: تجديد البيعة للإمام لا حب آل البيت
في خطب عبد الملك الحوثي وملازم حسين الحوثي، يتكرر الحديث عن "يوم الغدير" بوصفه "الركن الغائب من الإسلام"، ويُصور على أنه عهد إلهي بالخلافة لا يسقط بالتقادم.
في إحدى ملازم حسين الحوثي: "حديث الغدير أصل من أصول ديننا، ومن أنكره فقد خان الله ورسوله، وهو في حكم المنافقين المرتدين".
وهذا يعيد إنتاج نفس البنية العقدية عند الرسي والطبرسي، ويُظهر أن الخلافات بين الزيدية الهادوية والاثني عشرية ليست خلافات في العقيدة، بل في الأسلوب الدعوي، ودرجة المجاهرة، لا في الجوهر
المحور الخامس: "مجلس الفقهاء" و"ولاية الفقيه"… اختلاف في التسمية، تطابق في الوظيفة
عند النظر في وظيفة الفقيه في غياب الإمام في المذهبين الزيدي الهادوي والإثني عشري، نجد أن كلا المذهبين ابتكرا آليات بديلة لملء فراغ الإمام المعصوم. الاثنا عشرية نظّروا لولاية الفقيه، والزيدية الهادوية ابتدعوا فكرة "مجلس العلماء" أو "أهل الحل والعقد من السادة الفقهاء"، والوظيفة واحدة: احتكار التوجيه السياسي والديني باسم الإمام، وتكريس سلطة طائفية بغطاء ديني.
أولًا: "مجلس الفقهاء" عند الزيدية الهادوية
في الفكر الزيدي، وخصوصًا عند الأئمة المتأخرين، كان هناك تصور أن الأمة لا يمكن أن تُترك بلا قيادة، لكن في ظل غياب الإمام المعلَن أو تعذّر خروجه، يقوم مقامه الفقهاء من آل البيت، وتُوكل إليهم مهام التوجيه، وتفسير النصوص، والإفتاء، وتحديد المصالح العامة، أي أنهم يُمارسون سلطة دينية وسياسية كاملة، دون أن يُسمّوا "أئمة".
1.1 - بدر الدين الحوثي: في كتابه "التيسير في التفسير"، قال:
"يقوم العلماء والفقهاء بمهام الهداية حتى يظهر الإمام، وهم أهل الولاية في غيابه، ولا تجوز مخالفتهم، لأنهم على نهج الأئمة" (التيسير في التفسير، ج2، ص112)
وهذا يُشير بوضوح إلى أن العلماء هم الواسطة بين الناس والإمام، والحجة الموقّتة في غيابه، مما يُكرّس صورة "العصمة الجزئية" و"الطاعة الملزمة" لهم.
1.2 - المنظومة الحوثية المعاصرة:
الحوثيون طوروا هذه الفكرة، فأسسوا ما يُعرف بـ"الهيئة الشرعية العليا"، وهي مجلس من الفقهاء الموالين للسلالة، يقوم بدور:
•إصدار الفتاوى الملزمة
•تفسير النصوص على ضوء المشروع السلالي
•تبرير قرارات "السيد القائد"
•تصنيف الناس على قاعدة الولاء والبراءة
وبذلك أصبح لدينا سلطة دينية داعمة للإمام، لكنها من نفس السلالة، وتؤدي الوظيفة نفسها: الهيمنة المطلقة باسم الدين.
ثانيًا: "ولاية الفقيه" عند الاثني عشرية
منذ غيبة الإمام الثاني عشر عند الاثني عشرية، ظهرت أزمة "الفراغ السياسي"، فظهرت تدريجيا نظرية "النيابة العامة عن الإمام الغائب"، ثم تطورت إلى "ولاية الفقيه المطلقة" على يد الخميني في القرن العشرين.
2.1 - الإمام الخميني في "الحكومة الإسلامية":
"الفقهاء العادلون هم أولى بإدارة شؤون الأمة من غيرهم، لأنهم أعرف بالشرع، وهم نوّاب الإمام الغائب، وولايتهم لا تقل عن ولاية الرسول نفسه"
(الحكومة الإسلامية، ص 63)
2.2 - الدستور الإيراني (مادة 5):
"في زمن غيبة الإمام المهدي، يتولى الفقيه الجامع للشرائط قيادة الأمة الإسلامية". وبذلك، أصبح الفقيه الشيعي صاحب سلطة تشريعية وتنفيذية مطلقة، بحجة أنه نائب عن الإمام، وامتداد لولايته الغائبة.
ثالثًا: تطابق عميق في الغاية والمضمون
رغم اختلاف التسميات:
الزيدية = "مجلس العلماء" أو "الفقهاء من آل البيت المزعومين"
الاثنا عشرية = "ولاية الفقيه" أو "الولي الفقيه المعصوم حكمًا"
إلا أن الوظيفة واحدة تمامًا:
1.الوظيفة الدينية والسياسية
2.نائب عن الإمام الغائب
3.مفترض الطاعة
4.يحتكر التفسير الشرعي
5.يبرر سلطات الحاكم
6.لا يجوز نقده أو مراجعته
وهكذا، فإن ما يُمارسه "علماء الحوثي" اليوم هو النسخة الزيدية من ولاية الفقيه، إذ لا فرق جوهري في الوظيفة، وإنما تكييف مذهبي لأداء سياسي واحد:
إدارة الأمة عبر وكلاء السلالة، حتى يظهر الإمام أو يظهر البديل، وفي الحالتين، الأمة خاضعة ومُبعدة
المحور السادس: الفارق الشكلي بين المذهبين... عدد الأئمة لا جوهر الفكرة
من أبرز ما يُستدل به للتمييز بين الزيدية الهادوية والاثني عشرية هو أن الأولى لا تحصر الإمامة بعدد معين من الأئمة، بخلاف الثانية التي تلتزم بعدد اثني عشر إماما منصوصًا عليهم.
لكن عند التفكيك، يتضح أن هذا الخلاف ليس إلا شكليا وعدديا، بينما يظل الجوهر واحدا تماما:
الحق في الحكم حكر حصري على ذرية علي وفاطمة، ولا يجوز لسائر الأمة مزاحمة هذه السلالة.
أولًا: رؤية الزيدية الهادوية
الزيدية تفتح باب الإمامة لكل من توفرت فيه شروط معينة، وأهمها:
1.أن يكون من ذرية الحسن أو الحسين
2.أن يخرج بالسيف، ويعلن نفسه إماما
3.أن يكون عالما عادلا زاهدا شجاعا بحسب تقييمه الشخصي
وعليه، فإن أي علوي من نسل الحسن أو الحسين يمكنه أن يدّعي الإمامة في أي وقت، دون سقف عددي أو ترتيب مسبق.
يقول أحمد بن يحيى المرتضى في "المنية والأمل":
"الإمام في كل زمان، من وُجد فيه الشرائط، ودعا إلى نفسه، وبايعه الناس، فهو الإمام، سواء كان هناك من سبقه أم لا". (المنية والأمل، ص 81)
ويضيف الهادي يحيى بن الحسين في "الأحكام": "من خرج منهم داعيا إلى كتاب الله وسنة نبيه، جامعا للشرائط، فهو أولى بالإمامة، ولو خرج إمامان قُدّم الأفقه والأشجع".
لكن الواقع الذي فرضه هذا المفهوم على مدى قرون، أنه أدى إلى تنازع دائم على السلطة بين الأئمة أنفسهم، ونتجت عنه حروب لا تنتهي بين أبناء العمومة من البيت العلوي.
ثانيًا: رؤية الاثني عشرية
الاثنا عشرية ترى أن الإمامة منصوص عليها نصا غيبيا من الله، ومحددة سلفا في اثني عشر إماما، بدءا بعلي وانتهاء بمحمد بن الحسن (المهدي المنتظر)، ولا يجوز الزيادة أو النقص عن هذا العدد، ولا تُمنح لأحد خارج هذه القائمة.
وقد ورد في "الكافي" للكليني (ج1، ص 532):
"إن الأئمة بعدي اثنا عشر، كلهم من قريش، أولهم علي وآخرهم القائم المهدي".
وبذلك، فإن الفارق هنا ليس عقديا في مسألة الحصر أو اشتراط النسب، بل في مسألة التعيين وعدد الأئمة.
ثالثًا: النتيجة التاريخية واحدة
رغم الفارق في عدد الأئمة وطريقة تعيينهم، إلا أن النتائج السياسية والاجتماعية والعقدية واحدة:
•كلا المذهبين أغلق باب الحكم أمام جمهور المسلمين.
•كلاهما جعل السلطة شأنًا سلاليًا مقدسًا.
•كلاهما أخرج الأمة من معادلة الشورى والاختيار.
•كلاهما أدى إلى صراع دموي دائم باسم الأحقية العائلية.
في اليمن:
أدى مفهوم الإمامة المفتوحة للزيدية إلى ظهور عشرات الأئمة في وقت واحد، كلهم من آل البيت المزعوم، يتقاتلون على الحكم، ويكفّر بعضهم بعضا، وكانت اليمن ساحة مستمرة لحروب داخلية "علوية – علوية"، دمرت المجتمع، وأوقفت التطور السياسي والاجتماعي قرونا.
في إيران والعراق:
تسببت فكرة الإمام المعصوم الواحد الغائب في تجميد المجتمع على انتظار الإمام المنتظر، ما أدى إلى شلل سياسي كامل لقرون، إلى أن جاء الخميني وأعاد صياغة الولاية بصيغة الفقيه.
رابعًا: كلا النموذجين يمنع الأمة من الحكم
الزيدي يقول: "الحكم لآل البيت، بشرط الخروج".
الاثنا عشري يقول: "الحكم لآل البيت، بشرط النص والغيبة".
والنتيجة واحدة:
الأمة لا تملك أمرها، ولا يحق لها أن تختار أو ترفض، بل عليها أن تنتظر الإمام، أو تبايع السلالة، أو تطيع الفقيه نيابة عن الغائب.
وهذا ما يتجلى اليوم في خطاب الحوثيين تماما، فهم لا يعترفون بأي حكم خارج السلالة، ولا بأي شرعية غير ما يمنحه "السيد"، لأنه عندهم امتداد لسلسلة الأئمة التي لا تنقطع إلا بقيامة الساعة.
الخاتمة: الحوثية ليست انحرافا عن الزيدية، بل تحقيق لها
بعد تتبّع الأسس العقدية والمرجعيات النصية في كل من المذهب الزيدي الهادوي الجارودي والمذهب الاثني عشري الإمامي، يتبيّن لنا بما لا يدع مجالا للشك أن الخلاف بين الطرفين خلاف صوري، لا يمس الجذر العقدي، وأن ما يُقدم للناس على أنه اختلاف في العقيدة، لا يعدو أن يكون اختلافا في التكتيك والتسلسل التاريخي، لا في الجوهر والمبدأ.
أولًا: وحدة المنطلقات
يتفق الفريقان على أن:
•الإمامة أصل من أصول الدين، لا يتم الإيمان بدونها.
•الحق في الحكم منحصر في ذرية علي وفاطمة.
•الأمة قد خانت البيعة بعد وفاة النبي، وارتدت سياسيًا إن لم نقل دينيًا.
•الإمام لا يُسأل عما يفعل، ولا يجوز نقده، لأنه مفترض الطاعة من الله.
•الصحابة، وخاصة الخلفاء الثلاثة، مذنبون، إما مخطئون ضلالًا أو مرتدون نفاقًا.
•الدين مسيّس بالكامل لخدمة سلطة السلالة، وتفسير النصوص خاضع لغاياتها.
ثانيًا: وحدة الوظيفة السياسية
سواء سُمّي الحاكم "الإمام الخارج"، أو "الولي الفقيه"، أو "السيد القائد"، فكلهم:
•يتسلّط على الناس باسم الدين،
•يحتكر التفسير والتشريع والقيادة،
•يُجرّم من خالفه أو ناقشه،
•يُحيط نفسه بهالة من العصمة الواقعية،
•ويعتمد على طقوس الولاية والغدير لتجديد البيعة الطائفية.
الحوثي اليوم لا يخترع شيئا جديدا، بل ينفّذ حرفيا ما جاء في كتب الرسي، وابن حمزة، وأحمد بن سليمان، وعبد الله بن حمزة. ولو بعث أحد هؤلاء من قبره، لوجد في عبد الملك الحوثي تلميذا مطيعا، يُجسّد ما خطته أقلامهم، ويُنزل "إمامة الهدى" من الكتب إلى ساحات الواقع.
ثالثًا: سقوط خرافة "الزيدية المعتدلة"
إن الفكرة التي روّج لها البعض حول وجود "زيدية معتدلة"، أو مذهب يمكن التعايش معه لأنه لا يكفر ولا يغلو، ليست إلا غطاء سياسي ناعم لإخفاء حقيقة مرة:
أن الزيدية، في نسختها الهادوية الجارودية، تُنتج الطغيان الديني نفسه الذي نراه في الاثني عشرية، وأن الاختلافات الشكلية (في عدد الأئمة، أو شروط الإمامة) لا تُضعف من تطابق المشروعين في احتقار الأمة، واحتكار الحكم، وتقديس السلالة.
وليس عبثا أن الزيدية الهادوية لم تُنتج في تاريخها الطويل سوى الحروب، والدماء، والانقسامات، والكهنوت، والمجاعة الفكرية، ولم تكن يوما حاملة لنهضة أو عدل، لأن الأساس الذي بُنيت عليه: أن الأمة قاصرة، وأن الله اختار سلالة لتحكم، لا مجال فيه للحرية أو الشورى أو المساواة.
ما تمارسه جماعة الحوثي اليوم في صنعاء وصعدة وذمار وعمران:
•من احتكار للسلطة،
•وتقديس للزعيم،
•وتجريم للمعارضة،
•وتسخير للدين،
•وتكفير للآخر،
•ونهب للناس باسم الولاية…
كل ذلك ليس انحرافا عن الزيدية، بل تجسيدا كليا لها.
وكما أن طهران تُدار باسم "ولاية الفقيه"، فإن صنعاء تُدار اليوم باسم "إمام الهدى"، وكلا الفكرين لا يعترف بالأمة، ولا بالشعب، ولا بالعقل، بل يعترف فقط بمن وُلِد من السلالة، وتكلم باسم الولي.
الخلاصة النهائية:
الحديث عن "زيدية أقرب إلى السنة" أصبح اليوم مزحة ثقيلة وغطاءا خطيرًا، فمن يعتقد أن الحوثية قابلة للإصلاح أو التحول السياسي دون تجريم الجذر الزيدي الهادوي الذي أنبتها، فهو كمن يحاول زرع قمح في أرض ملغومة.
لا طريق للسلام، ولا للدولة، ولا للعدل، إلا بعد مواجهة هذا الفكر، وتجريمه، وكشفه للناس على حقيقته، فالأزمة ليست في "الجماعة"، بل في "العقيدة" التي أنشأتها، وحمَتها، وبعثت بها من جديد.