الجمعة 8 أغسطس 2025 11:20 صـ 14 صفر 1447 هـ
المشهد اليمني
رئيس التحرير عبد الرحمن البيل
Embedded Image
×

صالح: الحي في قلب الموت!

الجمعة 8 أغسطس 2025 11:34 صـ 14 صفر 1447 هـ
صالح: الحي في قلب الموت!

لا يُشبه علي عبدالله صالح سوى ظله، وظله لا يشبه أحدا.
مات الرجل، نعم، لكن موته لم يُطفئ معناه، بل أشعله على نحو لا يقدر عليه الأحياء.
واعني أن هناك زعماء تبتلعهم نهاياتهم، وهناك زعماء تبدأ حكايتهم بعد موتهم.
و صالح من الفئة الثانية، بل هو سلالة ثالثة أندر: من أولئك الذين يصبح موتهم حدثا متحركا، يطارد خصومهم أكثر مما طاردهم في حياتهم.

أي في بلد تمزقه الجهات، وتفرقه الطوائف، وتتكسر فيه الرموز كما تتكسر المرايا في يد الحالم، لا يزال اسم صالح يقفُ كجملة غير منتهية.
أي أن صموده بعد غيابه ليس من باب النوستالجيا فقط، بل لأن معناه لم يُستكمل.
بل هو زعيمٌ بين اتباعه مات واقفا، لكنه مات في اللحظة التي قرر فيها أن يعود إلى "معنى الجمهورية" بعد أن خانته السياسة وخانه كثيرون.

ولأن الح..وثية تدرك هذا المعنى العميق، هذا الثقل التاريخي الذي لا يُمسك بيد، فإنها لا تزال تنازله.
ولذلك لم تكتفي بقتله جسديا، بل دخلت حربا طويلة ضد رمزيته، كونها أرادت تحطيمه بأثر رجعي، وأرادت أن تحول مواقفه إلى هباء،و أن تسحب منه نُبل السقوط وتُعيد كتابته وفق سرديتها.

لكنها بذلك، تعترف بأنها لم تنتصر.

فالرئيس علي عبد الله صالح الذي أُخرِج من الحياة، لم يُخرج من الذاكرة.
وفي ذاكرة الناس، في حسهم التاريخي الغامض، لا يزال صالح هو الجامع الوحيد بين شتات ما بعده.
ولذلك لم يكن نبيا، ولا قديسا، لكنه كان حاكما من طين البلد، يفهم المزاج الشعبي، يجيد مخاطبة غرائز القوة، لكنه في النهاية، كان مؤمنا بيمن واحد، موحد، جمهوري، عصي على الإمامة والطائفية والتمزيق.

وحتى من عارضوه، لا يستطيعون أن ينفوا فرادة هذا الحضور.
بل عارضوه من موقع الحلم، لا من كُره الوطن.
ولقد رأوا فيه ممثلا لمعادلة الفساد، لكنه لم يكن يوما زعيما طائفيا، ولا مناطقيا، ولا مرتهنا لقوى خارجية.
أي عارضوه كما يُعارَض الأخ الأكبر: كثيرٌ من الملامة، لكن أيضا كثير من الاحترام العميق.

وحين مات، انكشفت البلاد على فقر رمزي مُفجع. فيما لم يتبقى بعدها من يجمع، لا على مستوى الجنوب ولا الشمال، لا على مستوى السياسة ولا الشعب.

كذلك خصومه لم يفلحوا في تجاوزه، ولأنهم لم يستطيعوا أن يخلقوا معنى أقوى منه، باتوا يطاردون خياله.
وهذه ليست معركة ضد شخص، بل ضد مفهوم.

.. مفهوم الزعامة الوطنية، المتصالحة مع تناقضاتها، الصلبة رغم هشاشتها، القادرة على تمثيل الناس رغم اختلافهم.

أي إنهم يحاربون "الشهيد الحي"، كما أسماه البعض، لأنهم لا يستطيعون أن يدفنوا دلالته.

فلقد مات الرجل بطريقته، وهذه بذاتها جريمة لا تُغتفر في عُرف الطغيان: أن تموت كما تريد، لا كما يُراد لك.
فيما موته لم يكن هزيمة، بل كان إعلانا رمزيا لعودة المعركة إلى مسارها الأول.
ومن هنا يبدأ المفهوم الأعمق: علي عبدالله صالح لم يمت ليُغادر، بل مات ليبدأ. لكأنه كان يُوقظ الوعي من تحت التراب، وكأن دمه كان حاجة وطنية لإعادة تعريف "الجمهورية"، لا بصفتها نظام حكم فقط، بل كحالة وجدانية مقاومة.

لذلك ليس علينا أن نؤلهه، بل أن نفهمه.
أن نفهم لماذا لا يزال حاضرا، ولماذا يعجز خصومه عن تجاوزه، ولماذا يستمر في قتالهم من حيث لا يتوقعون:
من معناه، لا من جسده. وهذه، لعمري، أشد معارك التاريخ: أن تصمد كرمز، لا كسلطة.
و أن تكون فاصلا بين عهدين، رغم أنك سقطت بينهما.!

فلا فناء لصالح.
ليس لأنه صالح الفرد، بل لأنه كان "معنى اليمن"، في لحظة بدا فيها اليمن بلا معنى.!

فهمتم ما فهمتم مش مشكلتي