السبت 9 أغسطس 2025 04:38 مـ 15 صفر 1447 هـ
المشهد اليمني
رئيس التحرير عبد الرحمن البيل
Embedded Image
×

من فيتنام إلى إسرائيل: كشف التكلفة كسلاح مضاد للاستعمار العكسي

السبت 9 أغسطس 2025 05:24 مـ 15 صفر 1447 هـ
من فيتنام إلى إسرائيل: كشف التكلفة كسلاح مضاد للاستعمار العكسي

‏في الوعي السياسي التقليدي، يقوم الاستعمار على فعل رأسي تمارسه القوة العظمى على الكيان الأضعف، حيث تفرض إرادتها عبر الاحتلال العسكري أو السيطرة الاقتصادية أو النفوذ المباشر. لكن ما نشهده في الحالة (الأمريكية – الإسرائيلية) يمثل انعكاسًا لهذه القاعدة؛ إذ استطاع كيان صغير المساحة والموارد، عبر أذرعه التنظيمية وفي مقدمتها AIPAC، أن يعيد برمجة الإرادة السياسية للدولة الأقوى في العالم، بحيث تتحرك في كثير من الملفات وكأنها امتداد لمشروع خارجي. هذه الظاهرة، التي يمكن وصفها بـ"الاستعمار العكسي"، لا تعتمد على الإكراه المباشر، بل على إعادة تعريف معايير الشرعية السياسية في الداخل الأمريكي، حتى يصبح دعم إسرائيل جزءًا من هوية السياسي الناجح، ويكون الخروج عن هذا الإجماع كافيًا لإقصائه من المشهد قبل أن يصل إلى صناديق الاقتراع، كما حدث مع شخصيات بارزة مثل سينثيا ماكيني، وبول فندلي، وتشارلز بيرسي، الذين فقدوا مقاعدهم رغم خبرتهم وشعبيتهم لأنهم تجاوزوا السقف المرسوم.

‏تفكيك هذا النمط من السيطرة الناعمة يتطلب أسلوبًا مختلفًا لا يكتفي بمواجهة الخطاب بخطاب، بل يركز على كشف التكلفة الفعلية لهذا المشروع في وعي المجتمع الأمريكي. هنا تبرز تجربة حرب فيتنام كنموذج يمكن استلهامه: ففي أواخر الستينيات كان الخطاب الرسمي يصوّر الحرب على أنها ضرورة لحماية القيم الأمريكية وصدّ الخطر الشيوعي، لكن مع مرور الوقت ظهرت أصوات من داخل المؤسسة العسكرية نفسها تكشف حجم الكارثة. قدامى المحاربين، بزيهم العسكري وجراحهم التي تحمل بصمات المعارك، جابوا المدن والجامعات وأدلوا بشهادات مباشرة عن القتل والمجازر والإنهاك النفسي والخسائر التي حجبتها القنوات الرسمية. لم يقتصر الأمر على تعداد القتلى أو الجرحى، بل شمل أيضًا الأرقام الضخمة للأموال المهدرة التي كان يمكن أن تُستثمر في الداخل، فضلًا عن التآكل الأخلاقي الذي لحق بصورة الولايات المتحدة عالميًا بعد فضائح مثل مجزرة "ماي لاي". هذا المزج بين المصداقية الأخلاقية والتجسيد البشري للتكلفة نجح في قلب المزاج العام، وحوّل الحرب من قضية أمن قومي إلى عبء سياسي وأخلاقي، وشكّل ضغطًا شعبيًا ساهم في قرار الانسحاب عام 1973.

‏تطبيق هذا الدرس على ملف الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل يعني إعادة صياغة النقاش العام من كونه التزامًا استراتيجيًا أو تحالفًا أخلاقيًا، إلى كونه عبئًا ماليًا وسياسيًا ومعنويًا يفوق مردوده. فالمليارات التي تُمنح سنويًا لإسرائيل ليست أرقامًا عابرة في الموازنة، بل هي أموال دافعي الضرائب التي تُسحب من قطاعات الصحة والتعليم والبنية التحتية، وتُضخ في صراع خارجي يزجّ بالولايات المتحدة في موقع الشريك في سياسات الحصار والقصف، ويضعف أهليتها للعب دور الوسيط النزيه. وإذا تصدّر هذا الخطاب شخصيات من داخل المؤسسة العسكرية أو الدبلوماسية الأمريكية، ممن عملوا في الشرق الأوسط وعاينوا الواقع عن قرب، فإن مصداقيتهم ستمنح الحملة قوة ردع للرواية السائدة، وقدرتها على خلق تيار شعبي يطالب بمشروطية المساعدات وربطها بالمصلحة القومية الحقيقية للولايات المتحدة.

‏حين يتحقق ذلك، سيتحوّل نموذج الاستعمار العكسي من منظومة منيعة تفرض أجندتها على القوة العظمى إلى مشروع مضطر للدفاع عن نفسه أمام أسئلة جوهرية حول جدواه وكلفته. وكما أن صور الجنود العائدين من فيتنام، الملطخة بدم الحرب، هزّت وجدان الأمريكيين ودَفعتهم إلى إعادة النظر في جدوى حرب بعيدة، يمكن للأرقام والشهادات القادمة من قلب المؤسسة الأمريكية اليوم أن تفتح نافذة وعي جديدة ترى في الدعم المطلق لإسرائيل استنزافًا لمقدرات الأمة لا دليلاً على قوتها. وعند هذه النقطة فقط، يصبح بإمكان الدولة العظمى استعادة قدرتها على تعريف مصالحها بنفسها، بدل أن تُعرَّف لها من الخارج وتُفرض عليها من الداخل.

* من صحيفة إيلاف