الأحد 7 سبتمبر 2025 05:49 مـ 15 ربيع أول 1447 هـ
المشهد اليمني
رئيس التحرير عبد الرحمن البيل
Embedded Image
×

الإمامة الذكية؟!

الأحد 7 سبتمبر 2025 03:18 مـ 15 ربيع أول 1447 هـ
الإمامة الذكية؟!

في صنعاء، حيث تختلط رائحة البن العتيق بدخان البارود الطارئ، يظل السؤال معلّقًا فوق هلال كل مئذنة: من يحكم المدينة اليوم؟ أهو شبح الإمام الذي خرج من بطون التاريخ، أم ظل الولي الفقيه القادم من وراء البحار؟

من مكاتب الشتات المكيّفة، يختصر البعض المشهد ببرود: الحوثيون مجرد وكلاء لطهران. يقرأون في صواريخهم المهربة وشعاراتهم الموشومة بروح فارس ما يكفي لإصدار حكمٍ نهائي. لكن في أزقة “باب اليمن”، حيث ذاكرة الحجر أصدق من بيانات السياسة، يعرف الناس أن القصة أعمق وأقدم.

قبل ثمانية قرون، وقبل أن يولد الخميني بدهر، كان الإمام عبد الله بن حمزة قد صاغ بالفعل عقيدة الدم والحق الإلهي. هو من أفتى بأن الشوافع “كفار تأويل”، فاستباح دماءهم وأموالهم، وأتقن فن الحكم باسم السماء، حيث لا تُسمع إلا لغة السيف. هذه الجذور العميقة هي ما يجعل المقولة الرومانسية بأن “الزيدية أقرب للسنة” تبدو تبسيطًا ساذجًا أمام من خبر الصراع على الأرض؛ فالمسألة لم تكن يومًا قربًا أو بعدًا، بل سلطةً وهيمنة.

ومع ذلك، ما نراه اليوم ليس مجرد رجع صدى للماضي البعيد. الإمام الغابر كان ديكًا محليًا، صياحه لا يتجاوز حدود قبيلته، ومعاركه لا تخرج عن وديان الجوف وجبال تعز. أما ديك اليوم، فقد ورث شراسة سلفه، لكنه تعلم صياحًا آخر، يتردد صداه من مضيق هرمز إلى غزة وبيروت.

لسنا إذن أمام استنساخ، بل أمام عملية تهجينٍ معقدة: رأسٌ زيديٌ قديمٌ على جسدٍ خمينيٍ حديث. إرث ألف عامٍ من السلالية جرى تغليفه بأدوات القرن الحادي والعشرين؛ الحرس الثوري بدلاً من جيش القبائل، والدورات الثقافية التي أزاحت حلقات العلم من المساجد.

الإمامة لم تمت عام 1962. لقد دخلت في بياتٍ شتويٍ طويل، لتعود اليوم في نسخةٍ جديدة، تحمل اسمًا ساخرًا يليق بالعصر: الإمامة الذكية. تحديثاتٌ إيرانية، واجهةٌ قبلية، وبطاريةٌ مشحونةٌ بحروبٍ لا تنفد. ما جرى في 21 سبتمبر 2014 لم يكن انقلابًا مفاجئًا، بل حصيلة نصف قرنٍ من العمل الصبور: من تسوية 1970 التي أعادت للملكيين موطئ قدمٍ في الدولة، إلى “الشباب المؤمن” في التسعينيات، مرورًا بحروب صعدة التجريبية، وصولًا إلى فبراير 2011، ربيعٌ بالاسم لكنه في اليمن كان شتاءً طويلًا؛ دخل الحوثيون قاعات الحوار بملابس السياسيين، فيما كانت أقدامهم تُثقل الأرض بخطى المقاتلين.

وكانت الأداة الحاسمة هي القبيلة. لم يواجهوها، بل أعادوا برمجتها: نزاعٌ هنا، تحكيمٌ هناك، ثم “مشرفٌ” فوق كل شيخ. ببطءٍ، تحوّل الشيخ إلى عكفي صغيرٍ في دولة المشرفين.

اليوم، يبدو الصراع في اليمن أبعد من مجرد حكومةٍ ومتمردين. إنه صدامٌ بين زمنين: القرن التاسع والقرن الحادي والعشرين؛ بين فكرة المواطنة وفكرة الاصطفاء. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل يمكن لوطنٍ أن يعيش بقدمٍ في الماضي وأخرى في المستقبل؟ التجربة اليمنية تقول إن الماضي لا يعود كما كان، لكنه قادرٌ على تعطيل المستقبل إلى أجلٍ غير مسمّى.

ومن يراهن على استقرار “الأمر الواقع”، سيندهش حين يكتشف أن الأوطان لا تُدار ببرامج منسوخة، ولا تُحكم إلى الأبد ببطارياتٍ مستوردة؛ فالتاريخ قد يُذبح، لكنه لا يُدفن حيًا.

المفارقة أن الإمامة القديمة سقطت عام 1962 لأنها كانت معزولةً عن العالم. أما إمامة اليوم، فتراهن على البقاء لأنها أصبحت ترسًا صغيرًا في آلةٍ إقليمية ودولية. وهكذا، يبقى اليمني عالقًا بين لعنتين: لعنة العزلة التي أسقطت الماضي، ولعنة الارتباط الخارجي التي تكرّس الحاضر.

216.73.216.139