الإثنين 29 سبتمبر 2025 12:52 مـ 7 ربيع آخر 1447 هـ
المشهد اليمني
رئيس التحرير عبد الرحمن البيل
Embedded Image
×

الحقيقة الجازمية

الإثنين 29 سبتمبر 2025 02:27 مـ 7 ربيع آخر 1447 هـ
الحقيقة الجازمية

هناك، وفي مدينةِ تعز، تعرَّف الشيخ جازم محمد الحِروي عن قربٍ على الأستاذِ أحمد محمد نعمان، ورفيقِ دربِه القاضي محمد محمود الزُّبيري، استضافَهما في مَنزلِه أكثرَ من مرَّة، وأُعجبَ بهما، واستشعرَ صدقَهما، ونقاءَ سـريرتِهما، وحبَّهما الفيَّاضَ للوطنِ المُنهَك، ورغبتَهما العارمةَ في تخليصِه من براثنِ الظُّلمِ والطُّغيان، وكان لهما خيرَ عونٍ وسند.

216.73.216.165

وحين عزم القاضي الزُّبيري على العودةِ إلى صنعاءَ لزيارةِ أسـرته 1943م، استأذنَ من وليِّ العهد، فسمحَ له الأخيرُ بالسفر، وأمرَ له بمبلغٍ زهيدٍ لا يفي بمُتطلباته؛ وما إنْ علمَ الشيخ جازم الحِروي بذلك، حتى قامَ بشـراءِ بعضِ الحاجيات، وسارعَ بتسليمِها له قبلَ سفرِه، ومعها مبلغٌ كبيرٌ من المال، وكان الأستاذُ النعمان - كما تشيرُ الرسالةُ التالية - حاضـرًا ذلك المَوقف.

تأثَّر القاضي الزُّبيري من ذلك المَوقفِ أيَّما تأثير، وجفاهُ المنام، مُفكِّرًا ببطلِنا النبيل، وبموقفِه، وما إنْ أطلَّ الصباح، حتى كتبَ للأستاذِ النُعمان رِسالةً مُعبِّرةً عن ذلك البرقِ الروحانيِّ اللامعِ الذي مزَّقَ ظلماتِ ليلتِهم البَارحة، ومَزَّقَ معها دياجيرَ الشكِّ والالتباس، وأشعلَ نفسَه بشعاعِ من الإيمانِ لا عهدَ له به، ولهبٍ من الحماسةِ خشـيَ أن يُذيبَ قلبَه ولسانَه وقلمَه.

وأضافَ مُخاطبًا رفيقَ دربِه: «تأمَّلِ الحقيقةَ الجازمية، فإنَّ المناطقةَ يُحدِّدون الإنسانَ بأنَّه الحيوانُ الناطق، أمَّا جَازم فإنَّه ليس من هذا الطراز، فهو ملاكٌ طهورٌ أنجبته الغمائم، تلك هي الصفةُ التي كنَّا نحومُ حولَها، أليس كذلك؟».

كان الزُّبيري الشاعرَ الإنسان، مُرهفَ الحس، جَياشَ العاطفة، قويَّ البيان. جادتْ قريحتُه في تلك الليلةِ الليلاءِ بكتابةِ مطلعِ قصيدتِه (مصحف جبريل)، ومنها نقتطف:

ألا فليعِــــشْ في مُهجـةِ الشعبِ جازمُ

تُغـــــذّي بـــرؤيـــاهُ النُّـــهى والعــزائمُ

فتــىً راعــني بالجــودِ حتى ظنــنـتــهُ

مـَـــــلاكًا طهــورًا أنجبـــتــهُ الغمــائمُ

تبسَّــــمَ لي بشــرًا، فخلــتُ ابتســـامهُ

بُــروقَ فـــؤادٍ أثـــقلتـــــهُ المكـــــارمُ

يُحـاولُ أن يُخفـي عُبـــابَ يمـــيـــــنهِ

وهل يختفي ذاك الخضـــمُّ الخضــارمُ

إلى أنْ قال:

لهُ مهجـةٌ كانــتْ لجبــريلَ مُصحفًا

يُفصَـــلُ منـهُ في الســماءِ التمــائمُ

فـــيـا ملــكًا مــن أمــةٍ سـبـــئــيةٍ

لقد بَعُــــدتْ عنك اللـذّاتُ التـوائمُ

لقد أخرجتك الأرضُ وحدك مُعجزًا

كما أخـرجتْ حــرَّ النضارِ المناجمُ

كأنك روحٌ قد نزلتَ مــن السـمــا،

تُفيضُ عليـنا من يــديك المراحمُ

فباللهِ قُلْ لي كيـف جئــتَ مُهذبًا

نبــيـلًا، ومــا بالحيِّ إلا السوائمُ

لم يمضِ من الوقتِ الكثير، حتى عادَ القاضي محمد محمود الزُّبيري من مدينة صنعاء، واستمرَّ ورفيقُه الأستاذ أحمد محمد نُعمان في التردُّدِ على وليِّ العهدِ أحمد يحيى حميد الدين، وكان حالُهما كمن ينفخُ في قِربةٍ مَثقوبة، فاستوقفَهما - حينها - الشيخ جازم الحِروي، وقال لهما بحماسٍ لافتٍ: «بدلًا من أنْ تظلُّوا تُبعثرون أدبَكم وأفكارَكم في تقديسِ الحُكَّام، اخرجوا نحوَ الشَّعب».

جَازم الشابُّ المُتحمِّس، ذو الاثنين والعشـرين ربيعًا، كان أكبرَ من سنِّه بكثير. لم يكتفِ بالتحفيزِ المعنويِّ؛ بل تكفَّلَ بالدَّعمِ المادِّي، خاصَّةً بعد أنْ تعذَّرَا له الثائرَان العظيمَان بضيقِ الحال.

وبالفعل، نجحَ بعد جُهدٍ جهيد، وبمساعدةِ القاضي عباس أحمد باشا، في تهريبِهما - ذاتَ ليلةٍ مُمطرةٍ - إلى عدن، في الرابع من يونيو 1944م، وذلك بعد أنْ توفَّرت الأسبابُ المَوضوعيَّةُ لذلك الهروب، والمُتمثِّلة بتهديدِ وليِّ العهدِ (السيف أحمد) للعصـريِّينَ بشكلٍ عامٍّ بالقتل، ووعدِه بأنْ يلقى اللهَ تعالى ويدُه مُخضَّبةٌ بدمائِهم.

- النص والصورة من كتاب (جازم الحروي.. صانع تحول)، الطبعة الثانية.