الجمعة 23 مايو 2025 03:34 مـ 26 ذو القعدة 1446 هـ
المشهد اليمني
رئيس التحرير عبد الرحمن البيل
Embedded Image
×

أويس القرني... النور الذي اختبأ في ظلّ العالم

الجمعة 23 مايو 2025 12:11 مـ 26 ذو القعدة 1446 هـ
محمد ناصر العطوان
محمد ناصر العطوان

أويس الرجل الذي لم يَر النبي صلى الله عليه وسلم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم رآه.

في صحيفة من صحف الملأ الأعلى، كُتبَ اسمٌ لم يعرفه أحدٌ في الأسواق، ولا في مجالس القبائل ولا في دور الشورى ولا في بيت المال، «أويس بن عامر القرني».

رجلٌ من اليمن، من قريةٍ تُشبه نقطة حبر ضائعة في هوامش الخريطة.

لكن النبي محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، الذي لم يلتقِ به، أخبر أصحابه ذات يوم:

«يأتي عليكم أويس بن عامر، مع أمداد أهل اليمن، من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره».

ثم أضاف، كمن يسلّم سرًّاً للكون: «فمن لقيه منكم فليستغفر لكم».

النبي صلى الله عليه وسلم، رأى ما لم يره الناس... رأى نوراً يَنبعث من صدع في صخرة مجهولة... رأى ظلاً بين الناس سيصبح شمساً في كتب التاريخ والأثر... عاش أويس كظلٍّ طويلٍ لا يلوي على شيء.

أبناء عمه كانوا يمرون به كأنه حائطٌ من طين، والجيران ينسون اسمه إن سُئلوا.

في «سير أعلام النبلاء» للذهبي، يروي الرواة:

«كان رجلاً مُهمَلاً عند قومه، لا يُعرف فضله».

لكن في عالم الأرواح، كان كالنجم الذي يُراقب الأرض من علوٍ لا تُدركه الأعين.

كان يلبس الصوف الخشن، ويأكل الخبز اليابس، ويحمل أمه على ظهره في حجٍّ لا ينتهي... حجّ القلب.

أمه العجوز، التي شكّلت عينيه الأولى، كانت عكازه الذي يتكئ عليه في صحراء الدنيا.

ذات مرة، سمع نداءً داخلياً يطلب منه الخروج للجهاد، لكنه أدار وجهه نحو غرفة أمه المُظلمة، وقال:

«الجهاد هنا... في انتظار آخر نفس لها»... خاض حروباً في صمت:

حرب الجوع بإطعامها، وحرب الوحشة بجلوسه عند رأسها، وحرب الموت بِتَرَدُّدِ أنفاسه مع أنفاسها... وبقى أويس في اليمن رغم شوقه للقاء الرسول عليه الصلاة والسلام.

بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، جاء عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما يبحثان عن أويس بين الحجاج والقبائل التي وفدت بعد موت النبي محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، يحملان في أعينهما صورة النبي صلى الله عليه وسلم، عن أويس.

وجدا رجلاً هزيلاً، يكسو التراب جسده، كأنه غصنٌ يابس.

لكن عندما سألاه: «أنت أويس القرني؟»... قال: نعم! ارتعشت الأرض تحت أقدامهما.

هذا الرجل المُهمَل طلب منهما دَعوة واحدة:

«لا تُعرِّفاني لأحد».

ثم اختفى كقطرة ماءٍ في نهر الزمن.

اليوم، لو مررت بقريةٍ في اليمن، أو في الكوفة قد تسمع حكاية عن رجل كان ينحت الصخر بصبره، ويُضيء الليل بدعواته.

أويس القرني، الذي حوّل الإهمال إلى مجد، والنسيان إلى خلود.

في كتب الصوفية، صار اسمه عنواناً لـ«الغريب المُلهَم» الذي لا يحتاج إلى شهود.

أما أبناء عمه، فقد ماتوا... ماتت أسماؤهم معهم، بينما بقي أويس:

«بقي حرفاً من نور في كتب الأثر، كُتبَ بمداد من ظلالٍ»... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.

*الراي الكويتية