بين مضيقين.. السعودية ترسم مسارًا ثالثاً

في مواجهة التحديات الجيوبوليتيكية المتصاعدة، تبرز الحاجة للمملكة العربية السعودية إلى إعادة هندسة موقعها الجغرافي عبر مشروع مزدوج يجمع بين تنمية البحر الأحمر كفضاء "سياحي – اقتصادي"، وإنشاء خط بري استراتيجي يربط المملكة بالمتوسط عبر الشمال السعودي. يهدف هذا التحوّل إلى تقليل الاعتماد على المضائق البحرية، وتحويل الجغرافيا إلى أداة للتكامل لا للصراع، بما يعزز استقلال المملكة وموقعها كمحور ربط إقليمي متجدد.
وبهذا، تفتح السعودية شريانًا بريًا لا يخضع لهيمنة مضائق بحرية استراتيجية مثل مضيق هرمز أو باب المندب أو حتى قناة السويس، وبالتالي يقلل من هشاشة الاعتماد على النقل البحري، ويمنح المملكة قدرة على المناورة اللوجستية في حالات الأزمات أو الحصار البحري. وهكذا، يتحول الخط البري إلى أداة لتحييد الابتزاز الجيوبوليتيكي البحري عبر إنشاء مسارات برية مستقلة، مع تحويل بيئة البحر الأحمر إلى بيئة سياحية واقتصادية جاذبة كمركز عالمي للسياحة والاستثمار والبيئة المستدامة ضمن معادلة "تسليع البيئة البحرية بدل تسليحها". ويتم العمل على تحقيق تكامل استراتيجي في البنية التحتية للنقل عبر تطوير خطوط نقل بري تربط شمال المملكة بالأردن وسوريا وصولًا إلى البحر المتوسط، ما يوفر بدائل استراتيجية للنقل البحري ويوسّع آفاق الشراكة الإقليمية وتنويع المداخل التجارية للمملكة لدعم التبادل التجاري مع أوروبا عبر المتوسط.
رؤية المملكة 2030 تقوم أساسًا على تعدد خيارات المملكة بمراكمة أوراق القوة المتعددة، وهذا ما يعزز فكرة استثمار الموقع الجغرافي لشمال المملكة من خلال إنشاء شريان نقل بري متطور كبديل يربط آسيا بالبحر المتوسط دون الإضرار بالواجهات السياحية، لتقليل الاعتماد على الطرق البحرية وتأمين خطوط إمداد بديلة في حالات الأزمات الجيوسياسية أو إغلاق الممرات البحرية. هذا يُعيد تشكيل مفاهيم النفوذ الجغرافي التجاري في المنطقة من خلال تعزيز الروابط مع الأردن وسوريا بامتيازات متعددة، وكذلك إعادة دمج سوريا في الاقتصاد الإقليمي. وأبعد من ذلك، فإن مثل هذا المشروع يُعيد كفاءة ربط الخليج بالمشرق من بوابة السعودية، كما يمنح السعودية فرصة اتصال بري جديد لمد جسور لرؤية المملكة 2030 في منطقة لطالما ارتبطت جغرافيًا بمعادلات ذات طابع أمني مهدد لأمن المملكة أكثر منه تجاري.
البُعد الجيوبوليتيكي هنا يتجلى في استخدام النقل والتجارة كوسيلة لإعادة ترتيب التوازنات بدل فرضها عبر التحالفات الصلبة، مما يُعيد تشكيل خرائط النفوذ بتطبيع "تجاري – تنموي" بين السعودية وسوريا عبر الأردن بعيدًا عن الأطر السياسية التقليدية.
جدلية "الجنوب الغربي" مقابل "الشمال المشرق" ستصوغ للمملكة في هذا المشروع استراتيجية مزدوجة: في الجنوب الغربي الاعتماد على البيئة الناعمة والسيطرة الجغرافية ذات الطابع البيئي السياحي، بينما في الشمال الشرقي استخدام الطرق البرية كأدوات ربط لفرض توازنات تجارية واستراتيجية.
هذا التوازن بين “الدبلوماسية الناعمة الساحلية” و"الارتباط البري الصلب” يمنح السعودية قدرة مضاعفة على المناورة الجيوبوليتيكية في وجه تحولات النظام الدولي والإقليمي، كما ينقل البحر الأحمر من كونه مجالًا للمنافسة العسكرية والملاحية إلى فضاء (بيئي – سياحي – استثماري) يعيد تشكيل الهويات السياسية للمنطقة بتفكيك عسكرة سواحل ومداخل البحر الأحمر.
تكمن القوة الجيوبوليتيكية لهذا المشروع في كونه غير أحادي البعد؛ فلا هو خاضع بالكامل للمنظومة البحرية الدولية، ولا هو مرتهن بالكامل لعلاقات النفوذ البري التقليدية، بل إنه يُعيد تعريف المركزية الجغرافية للمملكة عبر مسارين مستقلين يخدمان أهدافًا استراتيجية متكاملة، وهو ما يحقق الاستقلال الاستراتيجي.
يُعيد المشروع السعودي المزدوج، القائم على تنمية البحر الأحمر سياحيًا وإنشاء خط بري شمالي مستقل، تعريف الجيوبوليتيك الإقليمي عبر أدوات بديلة عن القوة الصلبة دون التخلي عن متطلبات الأمن الاستراتيجي.
(إيلاف).