الشدّادي.. حين صار الجبل جمهوريتنا، والدم نشيدها

في كل لحظة تمرّ على اليمن، يظهر فيها صوتٌ متردد، أو رايةٌ مثقوبة، يعود اسمٌ واحد ليذكّرنا أن هناك من اختار المجد على السلام الزائف، وفضّل الخلود في ذاكرة الأحرار على الجلوس في ظل الخنوع.
الفريق الركن عبدالرب الشدادي، القائد الذي لم يكن مجرد جنرال في ساحة معركة، بل كان المعركة نفسها، والراية التي لا تسقط حتى حين تسقط الأجساد.
في السابع من أكتوبر 2016، لم يخسر اليمن قائدًا فحسب، بل ودّع أحد أعمدة فكرها الجمهوري الجديد. لم يكن استشهاد الشدادي خاتمة لبطولته، بل بدايتها الحقيقية. فهناك من يموت وينتهي، وهناك من يسقط جسده وتنهض من دمه أمة. الشدادي كان من النوع الثاني؛ الذين يكتبون مستقبل الأوطان بدمائهم لا بأقلامهم.
لم يكن صراعه مع مليشيا الحوثي مجرد معركة عسكرية، بل مواجهة بين مشروعَين: مشروع الكهنوت، ومشروع الكرامة. مشروع الإمامة، ومشروع الدولة. وكان الشدادي حارس هذا المشروع الجمهوري، لا بشعارات، بل ببندقيته التي لم تخذله، وبصوته المبحوح بشجاعته وكأنه يقول: اليمن لا تركع.
لقد خاض معارك مأرب، لا وهو يراقب من خلف الشاشات، بل وهو في قلب الخطر، بين جنوده، كتفًا بكتف. لم يكن يصدر أوامر، بل يشارك في تنفيذها. لم يكن ينتظر النصر ليُنسَب له، بل كان يصنعه مع كل مترٍ يُستعاد، وكل شبر يُطهّر من المليشيا.
وما تركه الشدادي بعد رحيله، لم يكن فقط سيرة قائدٍ قاتل حتى النفس الأخير، بل إرثًا يتجاوز الجغرافيا والزمن.
ترك مؤسسة عسكرية وطنية، لا ولاء فيها لحزب أو طائفة، بل لجمهوريةٍ ولدها من دمه، وسقاها من عزيمته، وحماها حتى آخر طلقة.
لقد كان أول من قال إن الجيش ليس ساحة للفرز المناطقي أو المذهبي، بل هو بيت الوطن.
علم جنوده أن الشجاعة ليست استعراضًا، بل التزام.
وأن الدفاع عن اليمن لا يحتاج إلى شعارات، بل إلى رجال.
تمر الذكرى التاسعة لاستشهاده، ولا تزال صورته تعيش في كل جبهة.
اسمه يهتف به تراب مأرب، وتلهج به أفواه المقاومين في كل خندق.
كل طلقة تطلقها بندقية جمهورية تقول: "الشدادي لم يمت، بل تقدّمنا بخطوة".
حين انهارت الجبال، وقف هو كجبل.
حين تفرّق الجمع، وحد الصف.
حين راوغ الخوف، قرر أن يكون النور الذي لا ينطفئ في ظلمة الاستسلام.
فهو لم يهادن، لم يساوم، لم يخف، لم يتردد.
بل تقدّم، وقاد، وأسس، وبنى، ثم رحل جسده، وبقي معنا صوته، مدوّيًا كنداء تحرير، وكأن كل ذرة تراب في مأرب تقول:
"من دمه، ولدت الجمهورية من جديد."
هذا ليس رثاء، فالأبطال لا يُرثون.
هذا وفاء، ودرس، وعهد.
أن نستمر على خطاه، وأن نرفع رايته كما رفعها، أن نُقسم كما أقسم: إن الجمهورية لا تسقط، ما دام في اليمن رجل واحد يؤمن بها.