القوميون بلا قومية.. واليسار بلا مشروع
ما جرى في المؤتمر القومي العربي في بيروت لم يكن مفاجئا، ولم يكن وليد اللحظة كما يحلو للبعض أن يصوره، كان المشهد امتدادا طبيعيا لانهيارات فكرية وسياسية متراكمة، بدأت منذ أن تخلى اليسار العربي عن مشروعه التحرري المستقل، وارتمى في أحضان التحالفات الملتبسة، تحت شعارات فضفاضة لا تسمن فكرا ولا تبني وطنا..
منذ هزيمة 1967 ورحيل جمال عبد الناصر، دخل اليسار العربي نفقا طويلا من التراجع والارتباك، فقد كانت النكسة أكثر من هزيمة عسكرية؛ كانت انهيارا أخلاقيا واستراتيجيا لمشروع قومي اشتراكي ظن أنه قادر على الجمع بين التحرر والوحدة والتنمية، فإذا به يسقط تحت ثقل الشعارات التي لم تتحقق، والأنظمة التي تحولت من حاملة للواء الثورة إلى عبء عليها، ومع الزمن، تآكلت القاعدة الاجتماعية والسياسية لليسار، وتراجع دوره من قيادة الجماهير إلى مقاعد التنظير والعجز..
لكن الانكسار الحقيقي لم يكن في تلك الهزائم الكبرى فقط، بل في الانحرافات الصغيرة التي تراكمت لتصنع هذا الفراغ القاتل في الفكر والموقف، فحين اندلعت الحرب الإيرانية – العراقية، وقف كثير من اليساريين العرب – باسم “الممانعة” و”الثورة” – إلى جانب إيران، متناسين أن معركة الأمة لم تكن طائفية، وأن الاصطفاف خلف مشروع مذهبي خارج السياق العربي كان طعنة في صميم الفكرة القومية التي طالما تشدقوا بها، كانت تلك اللحظة بداية الانفصال بين الخطاب والمضمون، بين الشعارات والواقع، بين “الأممية” المزعومة و”القومية” المتآكلة!.
وفي اليمن، تكررت الخطيئة ذاتها، ولكن بصورة أكثر فجاجة، فحين تمرد الحوثيون على الدولة، وقف اليسار – بكل ما تبقى له من رموز ومفكرين – إلى جانبهم، معتبرين التمرد ثورة ضد “الهيمنة” و”الرجعية”، متجاهلين أن المشروع الحوثي ليس سوى نسخة محدثة من الاستبداد الديني المقنع، وأنه لا يمت إلى الثورة ولا إلى الحرية بصلة، لقد تحول اليسار هناك من حامل لراية التحرر إلى شريك في إنتاج الفوضى، ومن مناضل ضد الاستغلال إلى متفرج على تدمير الدولة الوطنية باسم “المقاومة”!.
وما المؤتمر القومي العربي في بيروت إلا انعكاس صارخ لهذه التناقضات، اجتمع فيه قوميون بلا قومية، ويساريون بلا يسار، يتحدثون عن العروبة وهم يشرعنون الولاءات العابرة للحدود، ويتغنون بالتحرر وهم يبررون الخضوع للمحاور الإقليمية، لم يكن مؤتمرا للفكر أو المراجعة، بل كان طقسا احتفاليا لإعادة إنتاج العجز وتجميل الانقسام..
لقد أصبح اليسار العربي اليوم تيارا بلا هوية، فاقد البوصلة، يتكئ على ذاكرة قديمة من النضال ولا يملك مشروعا للمستقبل، تحالفاته ظرفية، ومواقفه رمادية، وصوته خافت في وجه الاستبداد كما في وجه الاحتلال، بل إن بعض فصائله باتت جزءا من منظومات الاستبداد ذاتها، تتغذى على خطاب المقاومة بينما تعيش في حضن السلطة أو في ظلالها..
إن ما نحتاجه اليوم ليس يسارا يتباكى على أمجاد الماضي، ولا قومية لفظية تتغذى على الخطابات، بل مشروع وطني عربي جديد، يقوم على الاستقلال الحقيقي، وعلى رفض التبعية بكل أشكالها، وعلى استعادة الوعي بأن الحرية لا تستورد، والوحدة لا تفرض بالسلاح، والمقاومة لا تكون بتمزيق الأوطان..
اليسار الذي يقف ضد دولته لا يمكن أن يكون صوت الشعب، والقومي الذي يبرر الطائفية لا يمكن أن يكون حامل راية العروبة، والمؤتمرات التي تتحدث باسم الأمة وهي تغض الطرف عن انقسامها ليست سوى مرايا باهتة لأزمنة الهزيمة!.
لقد آن الأوان لأن يعاد تشكيل المؤتمر القومي العربي على أسس جديدة، من المفكرين والمثقفين العرب الأحرار الذين يحملون هم النهضة الحقيقية، وينتمون إلى العروبة فكرا لا شعارا، وإلى التحرر مشروعا لا ادعاءً، نريد مؤتمرا ينبثق من الوعي الجمعي للأمة لا من أجندات الخارج، مؤتمرا يضع الأمة العربية في موقعها الذي يليق بها بين الأمم؛ أمة حرة، واثقة بذاتها، متمسكة بثوابتها، قادرة على أن تصنع مستقبلها بيدها لا بأيدي الآخرين؟.













