الحقيقة في مرمى النار .. الإعلام في غزة بين الاستهداف العسكري والحصار الرقمي

في قطاع غزة، لا تمثّل الصحافة مجرد مهنة لنقل الأخبار، بل تتحوّل إلى ساحة معركة يومية يخوضها الصحفيون بأجسادهم وكاميراتهم ودفاتر ملاحظاتهم. فمنذ اندلاع الحروب المتكررة على غزة، بات الإعلاميون في مرمى الاستهداف المباشر، ما جعل تغطية الأحداث محفوفة بالمخاطر، وممارسة العمل الصحفي أقرب إلى مغامرة وجودية
فقد قُتل عشرات الصحفيين في الميدان، وجُرح العشرات، وتعرّضت مكاتب إعلامية للقصف المباشر، بما في ذلك مكاتب وكالات أنباء عالمية. وتُظهر التجربة أن الصورة والكلمة في غزة لا تُرعب الاحتلال فحسب، بل تُكلّف صاحبها حياته
مكاتب مهدّمة... وذاكرة توثق بالدم
من أبرز المشاهد الموجعة التي لا تُمحى من الذاكرة، قصف برج "الجلاء" الذي يضم مكاتب قناة الجزيرة ووكالة "أسوشيتد برس" خلال العدوان على غزة عام 2021. لم تكن تلك ضربة عسكرية عادية، بل محاولة صريحة لإسكات الصوت ونزع الصورة من السياق. ومع ذلك، لم يتوقف الصحفيون عن عملهم، بل انتقلوا إلى أماكن بديلة، وواصلوا تغطية الأحداث حتى وهم يقيمون في خيام أو على الأرصفة
العدوان الأخير على غزة خلّف أيضًا عددًا غير مسبوق من الشهداء الصحفيين، في قصف مباشر لمنازلهم أو أثناء تغطيتهم الميدانية. ومن بينهم من وثّق استهدافه بنفسه في لقطات تُبث للعالم كشهادة حيّة على فداحة الثمن الذي يدفعه الصحفي الفلسطيني
منصات رقمية في مواجهة الحظر والتقييد
لا يقتصر الحصار على القصف المادي، بل يمتد إلى الفضاء الرقمي، حيث تعرّضت عشرات الصفحات الفلسطينية على فيسبوك ويوتيوب وإنستغرام للحظر أو التقييد أو الإغلاق. فكل صورة لشهيد، أو فيديو لقصف، أو توثيق لمعاناة، قد تُعتبر "خرقًا لمعايير المجتمع" وفقًا للمنصات، ما يُضيق هامش النشر
الرقابة الرقمية أصبحت جزءًا من المعركة الإعلامية، وهو ما دفع صحفيي غزة إلى استخدام منصات بديلة، وتطوير أدوات حماية إلكترونية، وابتكار طرق جديدة لإيصال الصوت والصورة، عبر برامج التشفير والرسائل المشفرة، وتوثيق الفيديوهات بطريقة لا يمكن حجبها بسهولة
الصحافة الإنسانية... رواية ما لا يُقال
يُعدّ الصحفيون في غزة رواة للحياة والموت، ينقلون المعاناة اليومية، ويعطون للضحايا هوية، وللمأساة وجهًا إنسانيًا. فهم لا يغطون فقط مشاهد الحرب، بل يرصدون لحظات الألم والأمل، ولادة طفل في قبو مستشفى، عجوز تنقذ جروًا من بين الأنقاض، وشابة تكتب الشعر فوق ركام بيتها
هذه الصحافة الإنسانية باتت أسلوبًا مميزًا لصحفيي غزة، الذين يجيدون توظيف الكلمة والصورة في سردية تلامس ضمير العالم، وتكسر حاجز الصمت الدولي. الكثير من القصص التي خرجت من غزة غيّرت مواقف الرأي العام العالمي، ودفعته للتضامن، وهو ما يبرر شراسة الحملة ضد الإعلاميين هناك
المؤسسات المحلية... مقاومة بالصورة والتوثيق
رغم ضعف الإمكانات وقلة التمويل، تبرز في غزة مؤسسات إعلامية مستقلة تبذل جهودًا جبارة في التوثيق والتحقيق والتدريب، مثل شبكة "أكت"، و"إعلاميون من أجل فلسطين"، و"شبكة صحفيين بلا حدود"، التي تخرّج جيلًا من الإعلاميين الشباب يتقنون فنّ السرد الرقمي والتحقيق الاستقصائي، ويعيدون صياغة المشهد الإعلامي الفلسطيني بصيغة شبابية متجددة
كما ظهرت منصات صحفية تعتمد على الهواتف الذكية وتطبيقات المونتاج السريع، وتعمل عبر فرق تطوعية توثّق الانتهاكات وتنشرها في وقتها الحقيقي، ما ساهم في كسر احتكار الصورة وفضح الرواية الرسمية الإسرائيلية
الصحفيات في غزة... على خط النار
المرأة الصحفية في غزة حاضرة بقوة في الميدان، حيث تقوم بتغطية الأحداث، وتقديم التقارير، وإدارة البرامج، رغم التهديدات والضغوط الاجتماعية والنفسية. وقد برزت أسماء كثيرة أصبحت رموزًا في نقل الحقيقة، مثل الراحلة شيرين أبو عاقلة، التي ألهمت جيلًا من الصحفيات الفلسطينيات، ومثّلت نموذجًا للمهنية والشجاعة
تقول الصحفية آية الخطيب: "أحمل الكاميرا وأعرف أنني قد لا أعود، لكني أؤمن بأن صوتنا يجب أن يصل، وأن الحقيقة لا تموت"
الصحفيون... رُسل الحقيقة في زمن الظلمة
لا تملك غزة مؤسسات حماية كافية للصحفيين، ولا قوانين تُنصفهم عند الاستهداف، ومع ذلك، يتصدّر صحفيوها المشهد العالمي في نقل الحقيقة، وينالون جوائز مرموقة رغم الحصار. فكل تقرير يُعدّ في ظل القصف، وكل بث مباشر من شارع مدمّر، هو شهادة جديدة على أن الكلمة أقوى من الرصاصة، وأن الصورة قد تهزم جدار الصمت
الصحافة في غزة ليست عملًا، بل رسالة. إنها جبهة من جبهات المقاومة، يُخاض فيها الصراع من أجل حرية التعبير وحق الشعوب في المعرفة
الصحافة في غزة، الإعلام الفلسطيني، استهداف الصحفيين، قصف مكاتب الإعلام، الحصار الرقمي، الرقابة على المحتوى، توثيق الانتهاكات، الصحافة الإنسانية، الصحفيات الفلسطينيات، حرية التعبير، الإعلام المقاوم، جرائم ضد الصحفيين، قمع الكلمة الحرة، غزة والحرب الإعلامية