هدنة هشّة في الجنوب السوري وسط التناقضات الإسرائيلية والتردد الأميركي

الإعلان الأميركي الأخير عن التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في محافظة السويداء وبين سوريا وإسرائيل، بوساطة المبعوث الأميركي توم باراك، يعكس حجم التعقيد في المشهد السوري، خاصة في الجنوب حيث تتقاطع خطوط النفوذ الإقليمي والدولي.
الاتفاق غير الواضح، الذي جاء بدعم أميركي وبعد ضغوط سعودية وأردنية وتركية، تمّ التوصّل إليه بعد إدراك متأخر لخطورة مغامرات نتانياهو في سوريا وتصاعد التوتر في محيط السويداء، حيث برزت العشائر العربية البدوية كفاعل ميداني جديد يهدّد بخروج الجنوب عن السيطرة. هذه الفوضى لا تهدّد فقط أمن النظام السوري، بل تمتد آثارها إلى إسرائيل والأردن، مما دفع الأطراف المختلفة إلى البحث عن صيغة عاجلة لاحتواء الانفجار.
الخطاب الأميركي الذي دعا الدروز والبدو والسنّة إلى "إلقاء السلاح والعمل على بناء هوية سورية موحّدة" يعكس محاولة واشنطن لكسر المعادلة الطائفية التي تحوّلت إلى وقود للصراع. إلا أن هذا الطرح يبقى رهناً بوضوح تفاصيل الاتفاق، الذي لا يُعرف إن كان يشتمل على نزع السلاح الثقيل من المتمردين الدروز أم يكتفي بنزعه من عشائر البدو العربية!
إن نزع السلاح الثقيل من الجميع سواسية، دون تمييز، وسيادة الحكومة على أراضي البلاد، سيساعد على تحقيق مشروع سياسي واضح لإعادة بناء الدولة السورية على أسس توافقية، وهو ما يبدو صعباً في ظل النوايا الغامضة راهناً لأجندات القوى المحلية والإقليمية والدولية.
يبدو من تسريبات القيادة الروحية للحركة الدرزية الموحّدة والمجلس العسكري بالسويداء لوجهة نظرها لوقف إطلاق النار، محاولة واضحة لاستعادة زمام المبادرة على الأرض.
وهذه الشروط، رغم أنها تبدو مقبولة إذا اعتُبرت مرحلية ومؤقتة لوقف نزيف الدم، إلا أنها تعكس أزمة ثقة عميقة ورهانات خطيرة.
هذه الشروط ليست مجرد ترتيبات ميدانية، بل تحمل أبعاداً سياسية واضحة. فالقيادة الدرزية الموحّدة تسعى من خلالها إلى فرض نفسها كمرجعية وحيدة تمثّل موقف السويداء أمام الدولة السورية وبقية الأطراف، وتريد تأكيد أن أي تفاوض أو اتفاق مستقبلي يجب أن يمر عبرها.
كذلك، تبدو هناك رغبة في رسم "خطوط تماس" غير رسمية تفصل المحافظة عن التوترات المحيطة بها، بما يشبه إعلان منطقة نفوذ مؤقتة تحت إدارة ذاتية غير معلنة.
بمعنى آخر، وقف النار يبدو وكأنه "هدنة"، هدفه تثبيت مواقع النفوذ الحالية وكسب الوقت لإعادة ترتيب البيت الداخلي الدرزي، مع ترك الباب مفتوحاً أمام تفاوض سياسي أشمل يضمن مصالح السويداء وخصوصيتها. وهو ما يجعل مهمّات الوساطة تبدو غير سهلة.
من جهته، دعا "تجمّع عشائر الجنوب" – الذي أعلن استجابته لوقف إطلاق النار – إلى "إطلاق سراح جميع المحتجزين من أبناء العشائر، وتأمين العودة الآمنة لجميع النازحين إلى منازلهم وقراهم دون استثناء أو شروط"، مطالبًا بفتح قنوات للحوار والتنسيق بين مختلف الأطراف "بما يضمن عدم تكرار ما حدث، والسير نحو استقرار دائم في المحافظة".
وهذا يناقض ما تراه مرجعية الدروز من ضرورة خروج العشائر، ما يمكن اعتباره توازن قوى محلي وشروطاً مقابل شروط.
على مستوى التقاطعات الدولية، تنظر واشنطن إلى الجنوب السوري من زاويتين أساسيتين: حماية أمن إسرائيل وضمان استقرار الأردن من جهة، ومواجهة أي توسّع للنفوذ الروسي والإيراني من جهة أخرى. وأي انفلات أمني في الجنوب يُعد تهديداً لمصالح واشنطن الاستراتيجية، سواء فيما يتعلق بأمن استثمارات الطاقة أو بالمعادلات الإقليمية.
رغم استفادتها من إضعاف الدولة السورية، تدرك إسرائيل أن انفجار الجنوب قد يتحول إلى تهديد مباشر، خصوصاً مع وجود قوى مسلّحة غير منضبطة قرب حدودها.
نتانياهو، الذي يوظّف الأزمات لإطالة بقائه في الحكم، يواجه معادلة صعبة: منع عودة دولة سورية قوية، مع الحرص على عدم الانزلاق إلى فوضى شاملة.
سياسة "إدارة الفوضى" هذه التي تبنّتها تل أبيب وصلت إلى مرحلة خطرة، حيث لم تعد الفوضى أداة ضغط، بل مصدر تهديد محتمل، خاصة مع استثمار حزب الله لهذه السياسة وظهور نسخ سنّية جديدة لميليشياته في الجنوب السوري.
لقد كانت فصائل التمرّد الدرزي بقيادة الهجري، وفصائل العشائر العربية، كلاهما على علاقات ولاء ومصالح مع الرئيس السوري السابق بشار الأسد، ولم يكونا جزءاً من الثورة السورية. لذا، فإن تبدّل الولاءات السريع هذا ونقل البندقية من كتف إلى كتف، يشي بسهولة الاختراق الإيراني.
محور المقاومة يرى، وتحديداً إيران وحزب الله، في هذه الاضطرابات فرصة لإعادة خلط الأوراق في سوريا، وقد انعكست نواياهما في تحرّكات عسكرية لحزب الله قرب الحدود السورية - اللبنانية عشية الضربة الإسرائيلية، وإطلاق كمّية إشاعات بثّتها وسائل إعلام ومنصات موالية لهما حول هروب شخصيات نافذة واغتيالات وانقسامات داخلية في النظام السوري واقتحام مقر الإذاعة والتلفزيون، ولم يصحّ أي منها حتى الآن.
إيران تنظر إلى الجنوب السوري كجزء من مشروعها الإقليمي الممتد نحو لبنان. فالفوضى في السويداء تمثّل لها فرصة استراتيجية لتقوية خطوط إمدادها العسكرية إلى حزب الله، مستفيدة من انشغال النظام السوري بأزماته الداخلية وضعف سيطرته على أجزاء من البلاد.
وطهران تدرك أن أي تسوية بين دمشق وتل أبيب قد تحدّ من قدرتها على المناورة، ولهذا تحرص على إبقاء التوتر قائماً.
هذا الدور الإيراني يُفترض أنه يقلق إسرائيل ويدفعها إلى تعزيز التنسيق مع واشنطن وأنقرة وعمّان لاحتواء المخاطر.
في المقابل، تسعى روسيا، الحليف العسكري السابق لدمشق، للعودة إلى نفوذها القديم عبر الاستفادة من عدم الاستقرار في الجنوب دون الدخول مباشرة في الصراع.
ولقد بدا ذلك في التشفي الروسي بما حصل للنظام في دمشق من قبل حليفه الجديد واشنطن.
السعودية والأردن وتركيا مارست ضغوطاً مباشرة على واشنطن لتبنّي اتفاق وقف إطلاق النار؛ فبالنسبة للرياض، فإن استقرار الجنوب السوري جزء من رؤيتها لإعادة سوريا إلى الفضاء العربي، إضافة إلى الحد من النفوذ الإيراني.
فيما ينظر الأردن إلى أي اضطراب في الجنوب كتهديد مباشر لأمنه الداخلي واستقراره السياسي، بينما تحاول أنقرة استثمار الملف السوري لتعزيز مكانتها الإقليمية.
الجنوب السوري اليوم ليس مجرد ساحة مواجهة محلية، بل هو مرآة لصراع متعدد المستويات بين إسرائيل، إيران، روسيا، أميركا، وتركيا، مع انخراط القوى العربية في محاولة لإعادة التوازن.
إسرائيل تريد إبقاء سوريا ضعيفة دون انهيار شامل، إيران تسعى لاستغلال الفوضى، وأميركا تعمل – وسط تردد – على ضبط الإيقاع للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية.
نجاح أو فشل اتفاق وقف إطلاق النار يتوقّف على قدرة هذه الأطراف على تجاوز تناقضاتها أولاً، وعلى قدرة النظام السوري الجديد على تحقيق الأمن في السويداء وإنجاز شكل من التوافق الداخلي.
وهو أمر غير مضمون حالياً في ظل ضغوط أمنية وسياسية لا تخطئها العين. لذلك، يبدو الاتفاق أقرب إلى هدنة هشّة لإعادة ترتيب الأوراق، أكثر منه بداية لحل دائم للأزمة السورية. إلا إذا غيّرت تل أبيب سياساتها المتناقضة وأظهرت واشنطن حزماً أكبر.
*إيلاف