اليمن والجمهورية وجدلٌ عقيم

اعتدنا، نحن اليمنيين، بين فترة وأخرى، في السنوات العشر الماضية، على خوض جدل عقيم لا أستبعد افتعاله وتركيزه بدرجة رئيسية حول شكل (وطبيعة) النظام السياسي الحاكم الذي اختاره اليمنيون باكراً منذ ما قبل ثورة 26 سبتمبر (1962)، وهو النظام الجمهوري الذي كان أشبه بمخاض وخلاصة نضال يمني طويل، بذل اليمنيون فيه تضحياتٍ عظيمةً وكبيرة، للوصول إلى هذا المسار المتمثل بالنظام الجمهوري، نظاماً للحكم في اليمن.
216.73.216.105
تبنّى اليمنيون الجمهورية، كغيرهم من شعوب أخرى، لكن دوافعهم كانت ربما أكثر منطقية ومعقولية من دواعي غيرهم، لأن اليمن عاش تجارب حكم كهنوتية شديدة التخلف والظلم والهمجية والانحطاط السياسي، والكارثة أن هذه التجربة الكهنوتية كانت مرتبطة باستبداد ديني مذهبي بوصفها واحدة من أكثر تجارب الاستبداد الديني والسياسي انحطاطاً في التاريخ.
عاش اليمنيون تجربة تاريخية شديدة القسوة، تركت في أذهانهم ولاشعورهم الجمعي ندوباً من الحكايات والذكريات المؤلمة عن حقبة سوداء، اجتمع فيها كل أصناف الظلم والاستبداد والهمجيّة والتخلف التي ربما لم يعشها أيٌّ من الشعوب العربية الأخرى، هذه التجربة التي ارتبطت بالمذهب الزيدي ونظريته السياسية، ممثلةً بالإمامة، وما يعيشه بعض اليمنيين اليوم مع جماعة الحوثي وما عاشه آباؤهم وأجدادهم من كفاح وصراع طويل مع دويلات هذا المذهب الذي حوّل الإسلام إلى دين عائلي بحصر الحكم في سلالة من الناس دون غيرهم، مكفّراًَ كل من لم يؤمن بهذه الرؤية والنظرية السياسية، وواصفهم بكفار التأويل.
ما الذي يدفعنا اليوم للعودة إلى هذا النقاش اليوم بشأن الجمهورية، وهل نحن ملزمون بالردّ على كل من يحاول العودة إلى فتحه، ولماذا في هذا التوقيت، وما الجديد فيه، خصوصاً أنني نشرت عدة مقالات في هذا السياق عن قصة الجمهورية في اليمن وكل يتعلق بها، وكثير من الأفكار والنقاشات السابقة التي تصبّ كلها في دائرة الرد على الأصوات الإشكالية المفتعلة لنقاشات عقيمة ومكرره دائماً.
الملاحظ أن عودة النقاش الدائم حول الجمهورية يأتي دائماً عبر منصّاتٍ لا علاقة لها باليمن، وإن كان المتحدّثون عنها يمنيين أساساً، ويتماهون كثيراً مع توجّهاتٍ أو سياساتٍ معينة تجاه اليمن، بقصد أو بدونه، خصوصاً أن موضوع النظام السياسي اليمني جمهورياً قد حُسم باكراً، ولم يعد مادة للنقاش، عدا عن أن عودة الإمامة اليوم بأبشع صورها ممثلة بالحوثية هي أكبر الدوافع لتمسّك اليمنيين بالنظام الجمهوري، ولو لم تكن إلا الإمامة وحدها أهم نقيض للنظام الجمهوري لكفى ذلك دافعاً لليمنيين للدفاع عن جمهوريتهم... هذا أولاً.
ثانياً: الجمهورية كغيرها من أفكار سياسية أخرى، كالديمقراطية والوحدة، ناجحة في كثير من تجارب البشر والدول التي تمكنت نخبها السياسية من تجاوز فشلها الذاتي، وتمكّنت بهذه الأفكار من تقديم نماذج ملهمة وناجحة، فيما فشل الآخرون، وهذا ما حدث في الحالة اليمنية، حيث لم تحظَ اليمن بنخبة سياسية محترمة تمكّنت من القفز بالتجربة اليمنية إلى الأمام، وأفرغت هذه الأفكار الكبيرة من مضمونها، كالجمهورية وغيرها.
ثالثاً: للتجربة الجمهورية في اليمن خصوم عديدون في الداخل والخارج، في مقدمتهم وأكثرهم شراسة الفكرة الإمامية والإماميون الذين أزاحتهم الجمهورية وقضت عليهم، ولذا تحوّلوا فجأة إلى جمهوريين بقلوب وأفكار إمامية تُخفي ما تبطن، فضّلوا عقوداً الجمهورية الماضية كلوبي لقوى ظلامية تعمل من داخل النظام الجمهوري نفسه، وفي أطره وهياكله، على ضرب فكرة الجمهورية، وقد وصل بعض منهم إلى أعلى المناصب السيادية وزراء ورؤساء أجهزة أمنية وعسكرية، وعملوا كعصي في دواليب النظام الجمهوري.
رابعاً: مثلت الفكرة المعادية للجمهورية بصور وأشكال شتى، حتى كان إماميون من كان يتلفع برداء اليسار، كمحمد علي الشهاري، والليبرالية، كمحمد عبد الملك المتوكل، وكلاهما يتفقان على نسف فكرة الجمهورية وفشلها، وأنه يجب البحث عن فكرة بديلة، وكأن الجمهورية في اليمن بدعة منكرة كغيرها من البلدان الجمهورية في العالم، والتي لا تعاني أزمة بنيوية في طبيعة أنظمة الحكم، كالتي شهدتها اليمن طوال عقود، كالإمامة والسلطنات والمشيخيات التي كانت في عموم اليمن.
خامساً: ندرك جيداً أن الحرب الملكية الجمهورية في اليمن خلال عقد الستينيات، والتي بدأت بعد قيام ثورة 26 سبتمبر مباشرة، واستمرّت حتى ما أطلق عليها بالمصالحة الملكية الجمهورية عام 1970، وندرك جيداً الجدل الذي دار بشأن طبيعة نظام الحكم الذي يجب أن تختاره اليمن، وهناك مقترحاتٌ شتى، كان الإماميون في تلك المفاوضات يصرّون على أن لا تمضي اليمن نحو النظام الجمهوري، وأن تبقى دولة إسلامية بلا ملامح نظام حقيقي، وهو المقترح الذي رفضه حينها تماماً الجمهوريون، وهو ما تحقق لهم بعد ذلك بأن تبنّى الجميع النظام الجمهوري.
سادساً: لا تستند الخفّة التي تذهب اليوم إلى نقاش الفكرة الجمهورية سوى على أوهام وتصوّرات سطحية ومغلوطة، من قبيل أن القبيلة في اليمن عائق أمام نظام الجمهورية، وهذه أكبر مغالطة لا تنسجم مع حقيقة القبيلة ونظام المشيخ فيها، والذي يستند إلى رضى كل أفراد القبيلة، ولا يمكن أن يرث المشيخ إذا كانت شخصية الشيخ ضعيفةً وغير مقبولة، وإنما يذهب الجميع إلى اختيار أحد أقوى رجال القبيلة، وإن كان من خارج أسرة الشيخ الراحل نفسه، ما يجعل نظام المشيخ أقرب إلى المفهوم الجمهوري منه إلى أي نظام آخر.
سابعاً: لليمن ظروفه ومشكلاته الخاصة التي لا تتشابه مع ظروف الآخرين من حوله، ولكل مجتمعٍ تجاربه وخصوصيّاته، فمثلما وجد الخليجيون أنفسهم من خلال أنظمتهم السياسية الوراثية، وهي أنظمة قائمة اليوم، وفي رصيدها كثير من الإنجاز التنموي والسياسي، وأصبحت محلّ رضى شعوبها، ولا تربط وجودها بغير شرعية الإنجاز، بعكس فكرة الإمامة اليوم التي تدّعي حقاً إلهياً لحكم اليمن، وتسعى إلى فرض وجودها وسلطتها بالقسر والإكراه، وهذا دفع ويدفع اليمنيين إلى الاستماتة في سبيل نظامهم الجمهوري.
ختاماً: لا يعني فشل النخبة السياسية التي أدارت الجمهورية في اليمن، خصوصاً بعد وحدة مايو (1990)، أن الفكرة الجمهورية فشلت، وأن الفشل لم يتعدّ تلك النخبة التي حوّلت الدولة إلى ملكية خاصة، وأدارت الدولة بطريقةٍ لا تمت إلى فكرة الجمهورية ولا إلى دستورها وقانونها بصلة، بقدر ما كانت نزوات شخصية تتستّر خلف الشعارات، فيما كانت تسعى إلى تفريغ النظام الجمهوري من محتواه وروحه، وهو ما أوصل اليمن إلى لحظة الانفجار في فبراير/ شباط 2011، محاولاً إعادة اليمن إلى مساره الصحيح، ولكن نتيجة أيضاً، لأن النخبة التي تولت دفّة القيادة هي نفسها التي صنعت الكارثة، ما سهل الطريق لعودة الإمامة ومشاريع ما قبل الدولة كلها، شمالاً وجنوباً، وأن على اليمنيين اليوم أن يعيدوا الاعتبار للفكرة الجمهورية والدفاع عنها باعتبارها لا تزال هي الفكرة... الأكثر وضوحاً وشبهاً بهم ومشكلاتهم وحلولها، وليس التنكّر لفكرة الجمهورية كما يفعل بعضهم اليوم ممن أعتقتهم الجمهورية وآباءهم من أسر العبودية والكهنوت.
*العربي الجديد