شلال الدماء في جزيرة هرمز بين الأسطورة والجيولوجيا وسحر الرمال الحمراء

بين الأساطير القديمة ووصف الرحالة الشهير ابن بطوطة، الذي تحدث عن جمال أسواقها وازدهار تجارتها قبل قرون، تقف جزيرة هرمز الإيرانية اليوم كواحدة من أعجب الوجهات السياحية الطبيعية في الخليج، فهذه الجزيرة الصغيرة الواقعة جنوبي إيران لا تجذب الزائرين فقط بتاريخها وموقعها الاستراتيجي، بل أيضًا بظاهرة جيولوجية نادرة جعلت منها مسرحًا لمشهد يوصف بـ"شلال الدماء"، حيث تتحول الرمال والمياه إلى لوحة طبيعية حمراء مذهلة، تثير الدهشة والفضول معًا.
شلال دماء أم لوحة طبيعية؟
216.73.216.105
قبل أشهر قليلة، اجتاحت أمطار غزيرة جزيرة هرمز، وتدفقت السيول لتصبغ الشاطئ بلون دموي لافت، وانتشرت المقاطع المصورة سريعًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث وصف البعض المشهد بأنه شلال من الدماء، وبينما أصاب الذعر بعض السكان المحليين الذين لا يتجاوز عددهم 3000 نسمة، سرعان ما أوضح العلماء أن ما شاهده الناس ليس إلا ظاهرة طبيعية مرتبطة بتركيزات عالية من أكسيد الحديد في تربة الجزيرة.
عندما تختلط مياه الأمطار بهذه الرمال الغنية بالمعادن، تتحول إلى تيارات حمراء تندفع نحو البحر، لتمنح الشاطئ مشهدًا يختلط فيه الجمال بالغموض، حتى بدا للبعض وكأنه قادم من عالم آخر.
التفسير العلمي للظاهرة
المسؤول عن هذه الظاهرة المدهشة هو الهيماتيت، وهو معدن غني بالحديد يُعرف باسم "حجر الدم"، وعند تعرضه للأكسدة، يتكون أكسيد الحديد الذي يمنح الرمال لونها الأحمر الداكن، ومع الأمطار، تنتقل هذه الجزيئات الدقيقة إلى البحر، فتتحول الأمواج القريبة من الشاطئ إلى لوحة مائية باللون القرمزي.
هذه العملية الطبيعية لا تقتصر على هرمز وحدها، إذ يمكن ملاحظتها في مناطق أخرى مثل نهر تينتو في إسبانيا، الذي يكتسي مياهه أيضًا بدرجات من الأحمر بسبب المعادن الثقيلة.
استخدامات محلية وأبعاد اقتصادية
لم تعد الرمال الحمراء مجرد ظاهرة جيولوجية، بل تحولت إلى ثروة اقتصادية للسكان المحليين، فالتربة الغنية بالحديد، التي يطلق عليها الأهالي اسم "جلاك"، تُستخدم في صناعات متعددة:
-
الطهو: حيث تدخل كتوابل طبيعية في أطباق مثل حساء "سوراخ" التقليدي المكوّن من السمك والأرز، وتُستعمل أيضًا في تحضير المربيات والصلصات.
-
الصناعات الغذائية: مثل إضافتها إلى الخبز المحلي المعروف بـ"تومشي".
-
الاستخدامات الصناعية: كصبغات في الأقمشة والدهانات والسيراميك، وحتى في المستحضرات الطبية والتجميلية.
ولذلك، يرى كثيرون أن "المغرة الحمراء" ليست مجرد عنصر طبيعي جمالي، بل ثروة اقتصادية واعدة تفتح الباب أمام استثمارات سياحية وصناعية متزايدة.
وادي قوس قزح.. متحف جيولوجي مفتوح
جزيرة هرمز ليست فقط موطن "شلال الدماء"، بل تحتضن أيضًا وادي قوس قزح، أحد أكثر المواقع إثارة للدهشة في المنطقة، ويضم هذا الوادي أكثر من 70 لونًا مختلفًا من الصخور والمعادن، بما في ذلك الدولوميت الأسود والأبيض والرمادي، إضافة إلى البيريت والجبس والأباتيت وأكاسيد الحديد.
يشبه المشهد هنا لوحة فنية عملاقة، حيث تمتزج الألوان بين الأحمر والبرتقالي والأصفر وحتى الفيروزي، ما يجعل المكان أشبه بـ"متحف طبيعي مفتوح" يقصده الجيولوجيون والمصورون والسياح من مختلف أنحاء العالم.
التاريخ الجيولوجي للجزيرة
وفقًا للأبحاث، يعود العمر الجيولوجي لجزيرة هرمز إلى نحو 600 مليون عام، وهو تاريخ ارتبط بالقوى التكتونية الناتجة عن اصطدام الصفيحة العربية بالصفيحة الأوراسية، ما أدى إلى تكوين جبال مطوية وأحواض رسوبية.
مع مرور الزمن، تراكمت كميات كبيرة من المعادن الغنية بالحديد، التي منحت الجزيرة رمالها الحمراء الفريدة، واليوم، تبدو شواطئها كتابًا جيولوجيًا مفتوحًا يروي قصة طويلة عن التحولات الطبيعية في الخليج العربي.
تأثير المناخ والضوء على الظاهرة
تلعب الظروف المناخية في الجزيرة دورًا مهمًا في تكوين هذه الظاهرة؛ فالمنطقة قاحلة نسبيًا وتشهد قلة في الأمطار، ما يساهم في تسريع تآكل الصخور وزيادة تراكم الجسيمات المعدنية في الرمال.
لكن روعة المشهد لا تقتصر على الأمطار وحدها، بل تتغير ألوان الشاطئ الحمراء طوال اليوم تبعًا لزاوية سقوط أشعة الشمس، ما يمنحه طابعًا سرياليًا متغيرًا باستمرار، وهذا التفاعل بين المياه المالحة، الرمال الغنية بالحديد، وضوء الشمس يخلق لوحة طبيعية تتبدل درجاتها اللونية من البرتقالي الفاتح إلى الأحمر القاتم، في مشهد يخطف أنظار الزوار.
السياحة والسمعة العالمية
بفضل هذه الظواهر الفريدة، تحولت جزيرة هرمز إلى وجهة سياحية عالمية تستقطب آلاف الزوار سنويًا، فالشاطئ الأحمر، إلى جانب وادي قوس قزح، يشكلان أبرز معالم الجزيرة التي لا تتجاوز مساحتها 42 كيلومترًا مربعًا، ولا يقتصر الاهتمام بها على السياح فقط، بل باتت مقصدًا للعلماء والجيولوجيين الذين يرون فيها مختبرًا طبيعيًا لفهم التغيرات الأرضية والمعادن.
المشهد الأخير
بين الأساطير التي وصفها الرحالة القدامى والعلم الحديث الذي فسّر سر الرمال الحمراء، تظل جزيرة هرمز واحدة من أكثر الوجهات الطبيعية إثارة للدهشة في العالم، فهي كتاب جيولوجي مفتوح وثروة اقتصادية، ومزار سياحي ساحر، يجمع بين الجمال الطبيعي والتاريخ والاقتصاد، وفي حين يصفها البعض بـ"جزيرة شلال الدماء"، فإن الحقيقة أنها لوحة طبيعية فريدة تعكس تفاعل العلم مع الطبيعة، وتثبت مرة أخرى أن كوكب الأرض لا يزال يخفي بين طياته مشاهد تبهر العيون وتغذي الخيال.