الثلاثاء 4 نوفمبر 2025 02:46 مـ 14 جمادى أول 1447 هـ
المشهد اليمني
رئيس التحرير عبد الرحمن البيل
Embedded Image
×

وطن يمشى إلى قبره!

الثلاثاء 4 نوفمبر 2025 11:25 صـ 14 جمادى أول 1447 هـ
وطن يمشى إلى قبره!

هذا خبرٌ مرّ عابراً كسحابة حزنٍ ثقيلة، بينما تفاصيله كفيلةٌ بأن تُوقف الأرض عن الدوران.

من بين مائة وخمسة وتسعين جثماناً سلّمتهم إسرائيل بعد تعذّر التعرّف على ذويهم، وُضِعَت أربع وخمسون جثة فلسطينية مجهولة الهوية، بلا أسماء، وبلا وداع، فى مقبرةٍ جماعيةٍ صامتة بدير البلح فى غزة. كل جسد منها يحمل حكايةً لم تُروَ بعد، لتظلّ القصص معلّقةً فى صمت المقبرة، ويظلّ وجع العائلات الفلسطينية ممتدا فى كل بيتٍ وذاكرةٍ ونبضة من نبض هذا الشعب.

بعض الجثامين التى سُلّمت فى عملية التبادل، كانت منزوعة الأعضاء الداخلية، محشوةً بأكياس النايلون والقطن، كأن الجريمة لم تشبع من ضحاياها بعد.

لم يدرِ أحدٌ أن هذا الجثمان المسمّى «مجهول الهوية» هو آخر ما تبقّى من عائلةٍ مزّقتها القذائف أشلاءً، فكيف تنتظر فرق الروتين الإدارى، إفادة من فراغ الموت . ولا خطر ببال أحدٍ أن يسأل الأشلاء ـ لا الأشقاء ـ عن هوية هذه الجثامين. فهذه الأشلاء هى آخر من تبقى من العائلة لتتعرف على بعضها .

لم يدرك الباحثون فى المقابر أن عليهم أن يُصغوا إلى التراب نفسه، فقد تنطق المقبرة بالحقيقة حين تصمت كل الدول، وتغيب كل الضمائر.

يقول الخبر الصحفى إن الجثامين دُفنت بعد استيفاء المهلة المحددة بخمسة أيام، ووُثِّقت وصُوِّرت مع متعلقاتها قبل أن تُوارى فى قبورٍ مرقّمة.

لكننا نحتاج إلى خمسة قرونٍ كى تنسى الأرض نبض ترابها، فالأرض لا تنسى، ولا تحتاج أرقاماً. ستحكى المقبرة يوماً قصة الأجساد التى التحمت ببعضها حتى لم تعد تفرّق أيّ جزءٍ ينتمى لمن، لأنهم جميعاً اتّحدوا فى الألم والمصير.

غير أن السؤال الأشدّ قسوة: ماذا عن المقابر المتحرّكة فى هذا الوطن العربى الكبير؟

تلك التى تمشى على قدمين، تضجّ جثثها بالحياة دون أن تُسمَع لها أنفاس، بلا أسماءٍ ولا ملامح، معروفةٍ فقط بأرقام على هواتف متحركة!.

مقابر غزة المجهولة الأسماء، المعلومة بالألم، قد تنهض يوماً ما حين تستعيد كرامتها المصلوبة. لكن كيف نسكت ضجيج مقابرنا المتحرّكة — ونحن أحياءٌ موتى — لا نكفّ عن الصمت، والموت خجلاً من رؤيتنا لذواتنا؟

ذاك سؤالُ الدهشةِ المؤلمة، سؤالٌ لا ينتظر جواباً، لأنه يعرف أن الإجابات دُفنت منذ زمنٍ بعيد. وليس بعيداً عن مأساة المقابر المعروفة بالقهر، يمكننا أن نقرأ واقعاً عربياً يقترب من أن يتحوّل إلى وطنٍ كاملٍ من المقابر.

نظرةٌ واحدةٌ إلى الخريطة تكفى لنرى محاولات إعادة رسمها من جديد، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكأن استقلال الدول كان مجرد استراحةٍ مؤقتةٍ بين استعمارين. فالتغيير مستمر، لكن ليس نحو النهوض، بل نحو التشظّى والانقسام الذى يخيّم على المنطقة. وما يجرى فى السودان وليبيا واليمن وسوريا وفلسطين - وسبقتها الصومال - يثير قلقاً لم تعرفه الأمة من قبل.

فهل ترسم الأحداث خريطة جديدةً، أم تخرج المنطقة من نكبتها لتدرك أن بقاءها بؤرةَ صراعٍ لا يُبقى ولا يذر هو فناءٌ لروحها ومستقبلها؟

أسئلةٌ معلّقةٌ فى سماءٍ تبحث عن حريةٍ ضائعة، وعن كرامةٍ اختنقت تحت ركام العجز والتواطؤ. ومقابر غزة وحدها، أعادت الضوء إلى المشهد العربى الأكثر وجعاً — لا لأنها فقط القلب الفلسطينى النابض للأمة — بل لأنها المرآة التى تعكس حجم الإهانة التى يتعمّد اليمين الصهيونى أن يوجّهها لكلّ ما تبقّى من إنسانيةٍ فى هذا العالم.

لستُ متشائماً إلى الحدّ الذى يفضى إلى القنوط، كما قد يظن البعض ، فحين نبلغُ مرحلةَ الإحساس بالإهانة، ندرك أننا ما زلنا أحياء، وأن فينا جذوةً لم تنطفئ بعد فى رماد الانكسار.

ما دُمنا نشعر بالوجع، فثمة أملٌ بأن تنهضَ مقابرُنا المتحركة من سباتها،

وأن تستعيدَ الأوطانُ عافيتَها، وان لا تذهب ماشية إلى قبورها . فالإحساسُ بالوجع هو أوّل نداءٍ للحياة.

*الأهرام

موضوعات متعلقة