النبوءة والسياسة: كيف تحكم اللاهوت الإنجيلي بالشرق الأوسط عبر البوابة الإسرائيلية؟

في كتابها “النبوءة والسياسة”، تقدم الصحفية الأميركية جريس هال سيل شهادة من الداخل عن أحد أخطر التحالفات التي تشكّلت في السياسة الأميركية المعاصرة، ذلك الذي جمع بين العقيدة الإنجيلية المتطرفة والسياسات الخارجية للبيت الأبيض. لا يكتفي الكتاب برصد مظاهر التواطؤ بين القيادات الدينية الصهيونية المسيحية واليمين السياسي الأميركي في ثمانينيات القرن العشرين، بل يفضح كيف تحوّلت النبوءات الدينية إلى موجهات فعلية للقرار السياسي، تدفع بإصرار نحو التصعيد والصراع في الشرق الأوسط، خصوصًا في فلسطين.
لم تأت الكاتبة من خارج المؤسسة؛ بل كانت جزءًا من الوسط السياسي والإعلامي والديني الأميركي، ما منحها قدرة نادرة على التوغل داخل الحلقات المغلقة، وحضور المؤتمرات، ومقابلة القيادات الكنسية الداعمة لإسرائيل، بدءًا من جيري فالويل ومرورًا ببات روبرتسون وانتهاءً بأصوات كثيرة آمنت بأن “قيام إسرائيل” و”عودة اليهود إلى فلسطين” شرط لعودة المسيح، وأن معركة “هرمجدون” التي يُباد فيها الملايين وعدٌ كتابي لا بد أن يتحقق، وعلى السياسة الأميركية أن تُهيئ له المسرح.
تسلّط المؤلفة في هذا الكتاب، الذي تُرجم إلى العربية في وقت مبكر ونشرته جمعية الدعوة الإسلامية العالمية عام 1989، الضوء على عمق التحالف بين الأصولية الإنجيلية والصهيونية العسكرية، مدفوعًا بتفسيرات توراتية تعتبر أن تمكين إسرائيل عسكريًا واستعادة كامل أرض الميعاد، بما فيها القدس وغزة، هو شرط مقدس لعودة المسيح المنتظر وتحقيق الخاتمة الكونية. عبر توثيق ميداني ومشاركة شخصية في جولات دينية نظمتها شخصيات إنجيلية نافذة، تكشف هالسل كيف اختُزل الدين في خطاب عنيف يُشرعن الاحتلال والتوسّع، ويؤثر في قرارات التسلح النووي، بل ويهمّش قضايا الإنسان والبيئة والعدالة، انطلاقًا من يقين ديني بقرب نهاية العالم.
الكتاب لا يقدّم سردا لاهوتيا أو تفصيلا تأويليا في معنى النبوءات، بل يسلّط الضوء على استخدام هذه العقائد كأداة لبناء مشروع سياسي عدواني، يُقدَّم للرأي العام بوصفه جزءًا من الإيمان. تدور الكاتبة بين ساحات الكنائس، وغرف القرار السياسي، ووسائل الإعلام، لتبيّن كيف أن خطابا مشبعا بالخلاص الديني، يُستخدم لتبرير قصف شعب، وهدم منازل، ومحو ثقافات، ويتم تمريره باعتباره خطة إلهية لا يجوز تعطيلها.
ورغم الجهد الاستقصائي الملفت، لا يخلو الكتاب من ملاحظات نقدية متعددة. إذ إن الكاتبة وإن أصابت في فضح التحالف، إلا أنها لم تقدم قراءة لاهوتية معمقة لبنية هذه النبوءات، بل اكتفت بنقل التصريحات ومظاهر الجنون الديني، دون تفكيك البنية النصوصية التي تأسس عليها هذا الجنون. كما أن الطابع الصحفي للكتاب جعل سرديته تميل إلى الإثارة دون أن ترتكز على نظرية سياسية أو فلسفية عميقة في علاقة الدين بالسلطة. لقد كان بوسع الكاتبة أن تضع هذا التحالف ضمن تاريخ أطول من توظيف اللاهوت المسيحي في خدمة الاستعمار الغربي، لا سيما في القرن التاسع عشر، حين كانت بريطانيا تروّج لفكرة إعادة اليهود إلى فلسطين لأغراض إمبريالية واضحة.
من ناحية أخرى، ورغم أن الكتاب يدور حول فلسطين، إلا أن الصوت الفلسطيني فيه ضعيف، وربما غائب. فالضحية في هذا السرد تُذكر بوصفها مادة للضرب أو أداة للنبوءة، لا كفاعل أو شاهد، كما أن الرواية الإسلامية واللاهوت العربي لم تُمنح مساحة تفكيكية لمواجهة هذا الاستلاب الديني. لم تطرح الكاتبة بدائل فكرية أو سياسية؛ لم تدعُ إلى تحالف بين المعتدلين، ولم تروّج لخطاب ديني إنساني في مواجهة التوحّش المقدس، بل بدت منشغلة بالتحذير من خطر محدق، دون رسم ملامح لما بعد هذا الخطر.
ومع ذلك، يظل “النبوءة والسياسة” نصا تأسيسيا بالغ الأهمية، لأنه كسر الصمت من الداخل، وفتح الباب أمام موجة من النقد اللاحق لتيار المسيحية الصهيونية، الذي ما زال حتى اليوم يحكم مواقف واشنطن من قضايا العالم العربي. لقد كان الكتاب صرخة مبكرة في وجه مشروع دموي يُدار باسم نبوءات غامضة، وتحت غطاء ديني ملفق، وهي صرخة لا تزال أصداؤها تتردد، وتحتاج إلى من يحوّلها إلى معرفة منظمة، ومشروع مقاومة معرفية وأخلاقية.
لم يكن الأمر مجرد استخدام للدين كغطاء، بل كان هناك، وما يزال، اعتقاد حقيقي في هذه الدوائر بأن إسرائيل ليست فقط حليفًا سياسيًا، بل تمثّل بوابة الرب، وأن حمايتها واجب مقدّس. هذا ما أظهره دونالد ترامب لاحقًا بوضوح أكثر، حين أعلن القدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة، وفرض “صفقة القرن”، وسط مباركة إنجيلية واضحة وعلنية، تُبرر الفعل سياسيًا بنبوءات توراتية قديمة.
وفي عهد ترامب، بلغت النبوءات التوراتية ذروتها في التأثير على صناعة القرار الأميركي، خاصة تحت شعار “أميركا أولاً”، الذي أعاد إنتاج هوية قومية دينية تعتقد أن خلاص أميركا يكمن في دعم إسرائيل كشرط لتحقيق نهاية الزمان. هذا الشعار لم يكن عزلةً عن العالم كما بدا، بل كان مشروعًا استعلائيًا يؤمن بأن الشرق الأوسط يجب أن يُعاد تشكيله وفق وعود الرب لا وفق إرادة الشعوب. تحالف ترامب الوثيق مع بنيامين نتنياهو لم يكن مجرد تقارب سياسي، بل التقاء رؤيوي بين رجلين اعتبرا أن غزة عائق لظهور النظام الإقليمي الجديد، وأن تصفية القضية الفلسطينية ضرورة “قدرية”. وهكذا تحوّلت السياسات الأميركية في عهده إلى أداة مادية لإنفاذ نبوءات لا تخضع للعقل أو القانون، بل لما يُعتقد أنه إرادة إلهية تسير بالعالم نحو معركة نهائية.
تُشكّل غزة في أجندة هذا التيار عقدة لاهوتية وسياسية، لا باعتبارها مجرد مساحة جغرافية، بل بوصفها جيبًا مقاوما يعرقل “تحقّق النبوءة”. في تصوّر هذا التيار، لا يمكن لإسرائيل التوراتية أن تكتمل دون إخضاع كامل الأرض “الموعودة”، بما في ذلك قطاع غزة، الذي يمثل رمزا للرفض والصمود الفلسطيني، وعقبة أمام “التدبير الإلهي” المفترض. ولذا يُنظر إلى غزة كمنطقة يجب “تطهيرها” أو تفريغها، تمهيدًا لمعركة النهاية التي تشرعن الدمار باسم الوعد الإلهي. ولهذا تحوّلت الحروب المتكررة على غزة إلى لحظات احتفال ضمني في الخطاب الإنجيلي الصهيوني، حيث يُروَّج لها بوصفها “مؤشرات اقتراب الخلاص”، ويجرد فيها الفلسطيني من إنسانيته ليُختزل إلى عنصر مهدِّد لمسار النبوءة. في هذا المنطق، تُمحى المعاناة اليومية ويُهمَّش الضحايا، لأن الحق الإلهي – كما يزعمون – لا يعترف بالعدالة أو القانون، بل فقط بخريطة سماوية يجب أن تُفرض على الأرض، ولو تحت ركام غزة.
وقد أعقب هذا العمل دراسات كثيرة تعمّقت في الظاهرة نفسها، من بينها كتابات تناولت كيف تحوّل اللاهوت الإنجيلي إلى مشروع سياسي يبرّر الاحتلال ويشجّع على الحروب، وأخرى حلّلت أثر هذا الخطاب على الرأي العام الأميركي، وكيف تغلغل في الثقافة والإعلام ومراكز صنع القرار. كما ظهرت أعمال نقدية تعرّت التحالف بين الكنائس الإنجيلية واللوبي الصهيوني، مبيّنة كيف ساهم هذا التلاقي العقائدي في شرعنة الهيمنة الأميركية وإعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق سردية دينية تضع النهاية فوق التاريخ، والمقدّس فوق العدالة، والنبوءة فوق الإنسان.
إن ما تكشفه جريس هالسل في هذا الكتاب لا ينتمي إلى الماضي فحسب، بل يتغلغل في الحاضر ويتسرّب إلى المستقبل. فحين يتحوّل اللاهوت إلى خارطة طريق جيوسياسية، وتُقدَّم النبوءة بوصفها مشروعًا استعماريًا مقدّسًا، تصبح السياسة أداة طيّعة في يد الرؤى الغيبية، ويُختزل الإنسان إلى تفصيل عرضي في معركة لا تعترف بالحدود ولا بالقوانين. ولعل الأخطر من هذا كله أن هذا التحالف بين الإيمان والسلاح، بين النص والهيمنة، لا يزال يُعاد إنتاجه بأشكال جديدة، وبخطاب أكثر مهارة وتسللًا، فيما العالم يشيح بنظره، والضحايا يُسحقون تحت عجلة نبوءة ترفض التوقف. إن كتاب “النبوءة والسياسة” ليس مجرد كشف، بل دعوة ملحّة لفهم ما وراء اللغة، وما وراء التحالفات، وما وراء الدم، حين يُسفك باسم الخلاص.