السبت 31 مايو 2025 11:27 صـ 4 ذو الحجة 1446 هـ
المشهد اليمني
رئيس التحرير عبد الرحمن البيل
Embedded Image
×

الوحدة اليمنية ووعي الذاكرة (الحلقة الثانية)

الجمعة 30 مايو 2025 09:31 صـ 3 ذو الحجة 1446 هـ

إستعداد صالح للحرب:

أسرد هذه الوقائع كما عشتها ووعيتها، وكما لمست خطواتها، بقدر عقولنا كأطفال حينها، وليس بالضرورة أن تكون مطابقة للواقع ولكل ما حدث مع السياسيين والدولتين حينها وما جرى في كواليسهما.

بعد خطاب علي سالم البيض المذكور آنفاً (الذي هدد فيه بضرب صنعاء) يبدو أن الرئيس صالح أخذ الخطاب على محمل الجد، وبدأ بأولى خطوات بناء موقع دفاع جوي في أعلى قمة جبل سامع الموازي لقمة جبل صبر، وتعزيزاً للدفاع الجوي في جبل صبر، وسنجد في حرب 94 تركيز الطيران الجنوبي على هذا الموقع تحديداً في جبل صبر لتدمير محطة الرادار هناك وأجهزة البث الإذاعي لإذاعة تعز، غير أن الطيارين الجنوبيين كانوا أكثر مسؤولية ورفضوا ضرب الموقع، وأفرغوا صواريخهم في مواقع بعيدة عن المحطة.

في يوم دخول قوات الشرعية عدن صادفت ذلك الطيار الذي ضرب الموقع؛ كنا راكبين مع بعضنا وضباط آخرين طقماً عسكرياً متجهين به من عدن إلى تعز، وقد روى لي هذه القصة بنفسه، سأسردها في سياق حرب 1994م لاحقاً.
صادف أواخر ذلك العام أنني ووالدي –يحفظه الله- زرنا قمة الجبل كبائعين متجولين، وشاهدنا بأم أعيننا بداية استحداث موقع عسكري لبناء محطة رادار وموقع للدفاع الجوي، فقد كانت منطقتنا وجبل سامع على خط الطيران الحربي بين الشطرين السابقين. وكان والدي يحب الصعود إلى قمته للنزهة في طريقه؛ فقد كان يقول لي: من على القمة، وفي جوٍ صافٍ يستطيع الناظر جنوباً أن يرى عدن منه، وخاصة ليلاً ليرى كهرباء البريقة واضحة من هناك.

جبل سامع وجبل الصلو وجبل مطران من قدس في المصادر التاريخية يسمون (بوابة عدن)؛ فمن داخل قلعة الدملؤة بالصلو حكمت الدولة الزريعية عدن تاريخياً!

تم البدء بنقل المعدات من الأسمنت والحديد وتأسيس قاعدة لأبراج حديدية كما شاهدنا، وكانت كل تلك المواد تنقل بالطيران العمودي؛ إذ لم تكن هناك طرق للسيارة بعد في أعلى القمة، لكنه لم يكتمل وتوقف العمل به بعد فترة وجيزة، والسبب انقلاب كل الأمور رأساً على عقب لصالح أولى التفاهمات والخطوات لتوحيد الشطرين.

لم أستطع تذكر المسافات الزمنية على وجه الدقة بين التحولات من التهديدات بالحرب إلى التقارب بالرؤى دون أن أرجع إلى الخطوات السياسية على الأرض لدى السياسيين؛ فقد كان التحول سريعاً وعميقاً، ويبدو أنه كان في العام التالي لأحداث 13 يناير؛ أي: عام 1987.

يبدو أن الحزب الاشتراكي بعد الانقلاب فقد الكثير من قوته المادية والسياسية والاقتصادية أجبرته على إعادة حساباته على الأرض وأنه غير قادر على خوض حرب مع الشمال وهو الخارج لتوه جريحاً من نزيف داخلي أنهكه على كافة المستويات، فقد كان الشطر الجنوبي من الوطن في تلك اللحظات مديوناً بحوالي سبعة مليارات دولار على ما أتذكر بحسب ما كان يذاع حينها في وسائل الإعلام.

مما أتذكره فقط في تلك الأثناء أن مرحلة التهديدات كانت شبه منتهية، وأن تلك المعسكرات التي كانت في خدير وسامع التابعة لعلي ناصر محمد انتقلت إلى صنعاء والاستقرار فيها ودمجها جزئياً ضمن قوت الشمال. وهذا عشت فصلاً آخر منه ومعه في معسكر الفرقة الأولى مدرع في وقت لاحق، سأرويه في موضع سياقه.

كان والدي؛ المواطن البسيط الذي يصحو على صوت الإذاعات المختلفة وينام عليها، يخبرنا أولاً بأول بالمستجدات، وكان مما قاله لي ذات مرة من عام 1987 ونحن في قرى صبر أن الجنوب لن يستطيع خوض حروب مع الشمال بعد هذه الكارثة الداخلية، وأن اقتصاده ضعيف للغاية وترك وحيداً دون دعم وليس معه من طريق سوى التقارب مع الشمال.
لم يكن والدي محللاً سياسياً؛ بل كان متابعاً نهِماً، شغوفاً بالأحداث لكل التحليلات التي تبث عبر الإذاعات أكسبته معرفة كبيرة وقدرة على الاستنتاج ومآلات الأمور دونما عاطفة تجره، وأتذكر أنه كان يقف وحده جبهة واحدة وكل من في القرية يقفون في الجهة المقابلة، وكان يصيب في كل ما يقول!

ومما زاد هذا الرأي وجاهة أننا وفي طريق عودتنا من صبر إلى بلادنا في العام التالي مررنا على قمة جبل سامع مرة أخرى وقد توقف العمل في الموقع العسكري المزمع إنشاؤه، وهذا أكد لنا هذا التوجه والتقارب وانتفاء وزوال سبب التهديد.
مما أتذكره أيضاً، بعض الشهادات اللاحقة التي سمعتها على لسان سالم صالح محمد، الذي صار فيما بعد الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي، وعضو مجلس الرئاسة لاحقاً بعد الوحدة، في مقابلات شخصية تلفزيونية يروي هذا التحول في تلك الفترة، وكانت شهادته مطابقة تماماً للرأي السابق، ومما زاد من إيضاحه هو وشخصيات كبيرة وعلى رأسها الشيخ سنان أبو لحوم، في مقابلة تلفزيونية على ما أتذكر، أنه تم التواصل بينهما لشرح الظروف المحيطة بالحزب وبالجنوب، وأنه ترك وحيداً، وأن الاتحاد السوفييتي يغرق في أفغانستان بسبب التحشيد الدولي الغربي ضده، وحشد المجاهدين العرب لمواجهته بكل الدعم والإمكانيات في أفغانستان، وأنه لا يستطيع دعم عدن بظروفه الحالية، وليس لكم من خيار إلا التوحد مع الشمال، فكانت خطوات التقارب تتسارع كثيراً.

هنا وفي هذه النقطة تحديداً لا أستطيع أن أمر عليها مرور الكرام دون أن أوضح رأياً سمعته من الشيخ عبدالمجيد الزنداني - يرحمه الله- أكثر من مرة؛ سواء في المعسكر أم في محاضرات عامة، وهو يتحدث عن حرب أفغانستان مع الاتحاد السوفييتي.
قال: "لقد كان التعصب في اليمن كلٌ لتوجهه؛ المؤدلجون الاشتراكيون الشيوعيون شاركوا مع السوفييت ضد أفغانستان في تلك الحرب، ونحن الإسلاميون كنا مع أفغانستان ضد الاتحاد السوفييتي، والتقى اليمنيون من الجنوب والشمال يواجه بعضهم بعضاً على أرض أفغانستان"!!
هذه المأساة ستلقي بأثرها مستقبلاً بين الجانبين في المرحلة الانتقالية للوحدة، وكانت هذه مأساة من مأساة اليمنيين الذي يقاتلون بالنيابة عن غيرهم، ونحن نرى هذا الأمر يتكرر اليوم في السودان؛ فقد تم كشف العديد من العناصر الجنوبية الانتقالية تقاتل مع قوات الدعم السريع ضد الحكومة السودانية!

في تلك الأثناء، من عام 1988م جرى لقاء بين رئيسي وزراء الشطرين؛ ياسين سعيد نعمان عن الجنوب، وعبدالعزيز عبدالغني عن الشمال، وتم عمل اتفاق صنعاء، وهو اتفاق تنقل المواطنين بين الشطرين بالبطاقة الشخصية.
وفعلاً بدأ المواطنون التنقل على حذر في البداية، ثم فتح الباب على مصراعيه للتنقل والتبضع والتزاور الأسري المحرومين من اللقاءات على الرغم من قرب المسافات بينها، كما في الشريجة مثلاً.

في الشريجة زرت المكان أكثر من مرة، وبلغ مأساة تقسيم الحدود أن قُسّم دارٌ بين الشطرين، وقسمت أسرة نصفين؛ نصفها شمالي ونصفها جنوبي، وكل أسرة لها نظامها. أما الدور التي لا تبعد سوى أمتار قليلة عن بعضها وبعضها شمالي وأخرى جنوبية، وهي أسرة واحدة لا يستطيع الأهل التزاور بينهم البين، ويا للمأساة، لذلك أكثر الناس إدراكاً لعظمة ونعمة الوحدة هم أولئك الذين يعيشون في الحدود الشطرية من أسرة واحدة وقبيلة واحدة!

كان أبناء تعز أكثر الناس فرحاً وسروراً بهذه الخطوة، ليتدفق الناس بلهفة إلى عدن؛ فقد كان أكثر الترابط الأسري هو بين تعز وعدن، وخاصة تلك الأسر النازحة سواء بسبب أحداث 13 يناير 1986، أو ما قبلها أيام التأميم والتضييق وأيام التصفيات والاغتيالات وهروب كثير من الأسر الجنوبية إلى تعز والبيضاء، وأيام الحروب الشطرية، ولا أزال أتذكر بعض هذه الأسر التي عانت كثيراً، وبعض الأصدقاء منها ومن غيرها أثناء دراستنا في صنعاء كان يسرد لنا معاناة التهرب إلى الشمال وبعضهم يتعرض للقتل في قمم الجبال وبطون الأودية وخاصة من شبوة أو أبين.
بعدها بعام وبضعة أشهر جرت اتفاقية 30 نوفمبر، وهي الخطوة الحاسمة لاتفاقية الوحدة.

حينما تم الإعلان عن تلك الزيارة بحماس كبير من قبل الرئيس صالح، كان المواطنون يترقبون بشغف كبير وحماس منقطع النظير، وبما أنه لا كهرباء في الأرياف لمتابعة وقائع اللقاء، سارعت أحث الخطى تجاه صاحب المولد الكهربائي الذي يشغل القرية أترجاه يشغل المولد لمتابعة التوقيع، وحمسناه معنا أيضاً -رحمه الله-، وتجمعنا كشباب في دكانه القائم من الصفيح (صندقة) لمتابعة الحدث وكأننا في يوم عيد، ويا له من حماس كبير!

بدا الإخوان المسلمون حينها متحفظين، بل ومعارضين لتلك الوحدة إلا بشروط أن تكون بعيدة عن الحزبية وعلى مبدأ الشريعة الإسلامية، لا حسب الشروط الشيوعية كما كان يطلق على الجنوب، وحينما وُضِعوا أمام الأمر الواقع من الجانبين سلموا بالأمر؛ فقد كان التيار جارفاً أقوى من أن يتم اعتراضه، وحماس الشعبين كبير للوحدة، إلى درجة أنه لو استمروا على تلك المعارضة لتجاوزهم الشعب ونبذهم، ليبدأوا بعدها مرحلة معركة الدستور، ليتحولوا بعدها أكثر اليمنيين تعصباً للوحدة بعد انضوائهم تحت الحزب الذي أسسوه وهو التجمع اليمني للإصلاح.
وهو ذات الأمر كان مع متعصبي الاشتراكي شديدي الأدلجة الماركسية يرفضون الوحدة مع من يسمونهم الإسلاميين، وأحياناً يطلقون عليهم الأفغان العرب؛ إذ ما تزال حروب أفغانستان عالقة في أذهانهم حتى ذلك العهد، لكن التيار الشعبي الجارف كان أقوى من الجميع شمالاً وجنوباً!
.... يتبع