غزة.. حين يصير الجوع سلاح إبادة!

قالت صحفية شابة إنها لم تعد تقوى على الوقوف أمام الكاميرا لتغطية الأحداث فى غزة، ليس خوفا من الموت، بل لأن جسدها ينهار من الجوع. وقال طبيب إن الأطباء باتوا يتساقطون قبل المرضى من شدة الهزال الذى أصابهم. ووصف أنطونيو جوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة ما يجرى فى غزة بأنه مشاهد رعب حقيقية، «لا مثيل لها فى التاريخ الحديث»، لقد تحوّلت المجاعة من مأساة طبيعية إلى سلاح عسكرى، ومن كارثة عابرة إلى أداة ممنهجة للإبادة. فى السابق، كانت المجاعات تقع حين تنقطع السماء عن المطر، أو حين تُحرق الأرض تحت سنابك الغزاة، لكن ما يحدث فى غزة اليوم أبعد من ذلك.
إنه قرار سياسى.إنه تجويعٌ مقصود، بقرار عالمى. إنه موتٌ بالبطيء على مرأى ومسمع من عالم يرتدى بذلة «القانون الدولى»، بينما يطأ بأقدامه جثث الأطفال. وإذا كان أحد السياسيين الغربيين قد قال، فى لحظة صراحة مريرة، إن ما يفعله نيتانياهو يعفيهم من أداء «المهمات القذرة» فى الشرق الأوسط، فإن هذا التصريح، وإن جاء عرضيا، يُعبّر بدقة عن الانهيار الأخلاقى الذى تشهده الحضارة المعاصرة. نحن اليوم لا نشاهد فقط صورا لصواريخ تنهال، ولا أنقاضا تُنتشل منها الجثث، بل نشاهد بطونا خاوية، وأمهات يرضعن صغارهن العطش، وأطفالا ينامون على أرض باردة بلا وجبة ولا حلم. الجوع هنا ليس عرضا جانبيا للحرب، بل هو قرار سياسى دولى وإدارى محلى مُسبق. مَنْع إدخال الغذاء، تدمير خزانات المياه، حصار الدواء، قصف المخابز والمستشفيات... وتخدير إعلامى عن مفاوضات لا معنى لها غير انها هدمت سقف أحلام الجيل، حيث كنا نفاوض من أجل إكمال دولة واستعادة وطن وحق بالعودة، وإذ بنا نفاوض على كيس طحين !. كل هذا ليس عرضا من أعراض الحرب، بل أداة من أدواتها. أن يُقتل الإنسان برصاصة أو قذيفة، فذاك، على قسوته، مفهوم فى سياق الحروب. أما أن يُترك ليموت جوعا فى القرن الحادى والعشرين، فهذا انهيار أخلاقى لم يعرفه تاريخ البشرية، منذ أن أُطلق على هذا الكائن لقب «الإنسان». ولا قول يكفى لتسمية ما يحدث فى غزة. لكن أيضا، لا وصف يكفى لحجم الإهانة التى نشعر بها نحن... نحن الذين لا نموت جوعا، بل نختنق بالقهر والعجز، ونكتفى بمشاهدة صور المأساة عبر شاشات ممتلئة بالنشرات العاجلة، وتغريدات التضامن. بل وتصفق للنصر !. ننظر إلى غزة، ولا نجرؤ على النظر إلى أنفسنا. نُبرّر العجز بالصمت، ونغلف الخزى بالبيانات. ندين... نشجب... نتابع بقلق! ثم نغلق الشاشة، وننام. وفيما تُترك غزة تواجه موتا بطيئا بسلاح هو الأرخص - منع الطعام والماء والدواء والحياة - يواصل العالم «المتحضّر» والدول العظمى فيه إقامة المؤتمرات باسم العدالة، ويتغنّى بمنظومة حقوق الإنسان. لكنّ الحقيقة أن هذا العالم أطلق على نفسه رصاصة الرحمة، حين قرّر أن يتحوّل إلى شاهد زور دائم فى جنازات الأبرياء. غير أن العار الأكبر لا يقف عند حدود المجتمع الدولى. العار هنا... فى الجانب الآخر من الجغرافيا العربية.حيث نشاهد أهل غزة يموتون من الجوع، بينما نسارع إلى صياغة «الخبر العاجل» فى نشراتنا، وكأننا نُدخل الشعوب فى دورة تدريب على التعايش مع القهر. والتكيف معه. نُعيد فيها صياغة الألم ليبدو وكأنه روتين يومى. نعمل على تشكيل الذهنية العربية لتتكيف مع الرعب وكأنه قدر لا فكاك منه. نُدرّب المواطن العربى على مشاهدة الدم، ثم التعايش معه، ثم نسيانه. غزة لا تموت فقط من الجوع. غزة تموت لأننا سمحنا للجوع بأن يكون خبرا عاديا.
السؤال لم يعد: متى ستنتهى هذه المجزرة؟ ولا: متى يُسمح لشعبك بكسرة خبز؟ السؤال الحقيقى هو: متى سنتوقف نحن عن التعايش مع الجوع كخبر؟.
*الأهرام المصرية