المقترح الأميركي–الإسرائيلي لتقسيم غزة: من الإدارة الانتقالية إلى التبعية الدائمة
يأتي المقترح الأميركي–الإسرائيلي الجديد بشأن غزة في لحظة مفصلية من مسار الصراع حيث تتقاطع الحاجة الإنسانية مع الحسابات السياسية والأمنية المعقدة . فبعد شهور من الحرب والجمود اعلن دونالد ترامب عن خطتة لإنهاء الحرب في غزة والتي قبلتها الأطراف المتصارعة وحظيت بدعم اقليمي ، إلا أن المقترح الطاريء أعاد المشهد إلى حسابات معقدة حيث تسعى واشنطن وتل أبيب إلى استعادة المبادرة وإعادة صياغة المشهد بما يخدم رؤيتهما للحل في ظل تزايد الضغوط الدولية والإقليمية لإيجاد مخرج للأزمة . غير أن القراءة المتأنية لهذا المقترح تكشف أنه لا يندرج ضمن إطار تسوية حقيقية بقدر ما يمثل تكتيكًا تفاوضيًا يهدف إلى إعادة ترتيب موازين القوى وتهيئة الأرضية لفرض واقع جديد قبل أي مفاوضات نهائية .
فجوهر المقترح يقوم على إعادة الإمساك بزمام المبادرة السياسية واختبار مدى مرونة الأطراف العربية في القبول بصيغ مؤقتة، تُقدَّم تحت غطاء إنساني لكنها تخفي في جوهرها إعادة توزيع للأدوار وتثبيتًا لمعادلة أمنية جديدة. ورغم طابعه المرحلي إلا أنه يحمل خطرًا استراتيجيًا يتمثل في تقسيم غزة فعليًا إلى كيانين: شمالٍ مراقَب وجنوبٍ مُدار، بما يعني عمليًا إجهاض المشروع الوطني الفلسطيني وإعادة إنتاج الانقسام بصورة مؤسسية ودائمة .
ولفهم خطورة هذا المقترح يمكن النظر إلى تجربة كوسوفو في التسعينيات حيث طُبّق منطق مشابه قام على إزالة سيطرة بلغراد عن الإقليم، ثم إقامة إدارة دولية انتقالية تحت إشراف الأمم المتحدة وحلف الناتو . في تلك الحالة أُزيلت السيطرة الصربية عبر تدخل دولي ثم أُقيمت إدارة أممية مؤقتة قادت في النهاية إلى استقلال كوسوفو بعد نحو عقد من الزمن . والمقترح (الأميركي–الإسرائيلي) يحاكي هذا النموذج من حيث الآلية: إزالة سيطرة حماس ثم إقامة إدارة دولية–عربية مؤقتة . لكن الفارق الجوهري يكمن في أن التقسيم في كوسوفو كان يعكس واقعًا إثنيًا واضحًا بين أغلبية ألبانية وأقلية صربية ، وكانت صربيا بمثابة سلطة خارجية محتلة على إقليم له خصوصية قومية مختلفة . أما في غزة فالتقسيم المقترح ليس إثنيًا بل "سياسي–أمني" ، وحماس ليست قوة خارجية بل حركة مقاومة محلية نشأت في غزة نفسها . هذا الفارق يجعل التقسيم في غزة أكثر هشاشة وأقل قابلية للاستدامة ، لأنه يفرض انقسامًا مصطنعًا على شعب متجانس ديموغرافيًا وثقافيًا ويضع الصراع في دوامة من الصراع المتجدد .
والخطر الأكبر هو أن ما تحوّل في كوسوفو إلى استقلال فعلي ، قد يتحول في غزة إلى نموذج معكوس: تقسيم دائم لا يقود إلى سيادة حقيقية، بل إلى تبعية مستدامة تحت غطاء “الإدارة المؤقتة”. ففي كوسوفو كان الهدف فصل الإقليم عن صربيا تمهيدًا لاستقلاله ، بينما في غزة الهدف هو تقسيم السيطرة داخل الإقليم نفسه دون أفق سيادي واضح ، ما يجعل المقترح أقرب إلى إدارة استعمارية جديدة منه إلى حل انتقالي حقيقي . وبهذا المعنى: فإن المقترح يؤسس لكيان إداري مؤقت لا يتجه نحو الاستقلال ضمن الإطار العام لحل الدولتين بل نحو التبعية الدائمة ، وهو ما يُكرّس الانقسام الفلسطيني ويمنع أي صيغة سياسية موحدة في المستقبل .
ومن زاوية أوسع: يخلق المقترح سابقة دولية خطيرة إذ يسعى إلى تطبيع فكرة أن “الإدارة الانتقالية” يمكن أن تكون بإشراف إسرائيلي–دولي، وليس عربي–دولي . هذا التحول من شأنه أن يغيّر المعادلة التفاوضية بأكملها ويهمّش الدور العربي في رسم مستقبل القضية الفلسطينية ، بل ويحوّل غزة إلى نموذج يمكن استدعاؤه لاحقًا في مناطق أخرى لتسويغ أشكال مشابهة من الوصاية الأمنية تحت غطاء إنساني .
في ضوء ذلك تتباين السيناريوهات المحتملة بين القبول الجزئي بالمقترح تحت ضغط أميركي، وهو ما يعني عمليًا تكريس الانقسام وولادة كيان إداري منزوع السيادة يتحول تدريجيًا إلى واقع دائم لا إلى مرحلة عابرة ، أو رفضه والتمسك بالخطة الرباعية الأصلية بما يحافظ على وحدة غزة تحت إشراف عربي متوازن ويمنع فرض الوصاية الأمنية الإسرائيلية ، أو تعطّل المسار برمّته في حال تعنت إسرائيل وتراجع الوسطاء، ما يقود إلى جمود سياسي طويل واستمرار السيطرة الأمنية الإسرائيلية الكاملة على القطاع.
إن التقدير النهائي يشير إلى أن المقترح الأميركي–الإسرائيلي لا يرمي إلى تسوية دائمة، بل إلى تثبيت واقع أمني جديد بغطاء إنساني . ويمثل رفض الوسطاء العرب له خط الدفاع الأخير عن وحدة غزة وعن بقاء القرار الإقليمي في يد الأطراف العربية . ويبقى السؤال الجوهري: هل ستصمد الخطة الأصلية أمام الضغط الأميركي–الإسرائيلي، أم سيُعاد تعريفها تدريجيًا لتتوافق مع المقترح الجديد تحت عنوان “التوافق” ؟ الأيام المقبلة ستكون الفيصل في تحديد مسار هذا التوازن الدقيق بين الضرورة الإنسانية والسيادة السياسية.
* عن / إيلاف













